الأربعاء: 19/02/2025 بتوقيت القدس الشريف

أزمة النظام السياسي الفلسطيني بين الشرعية الثورية والأنتخابية ومعضلة الديمقراطية

نشر بتاريخ: 15/02/2025 ( آخر تحديث: 15/02/2025 الساعة: 20:16 )

الكاتب: مروان اميل طوباسي


لطالما استندت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الشرعية الثورية في تمثيلها للشعب الفلسطيني، حيث قامت منظمة التحرير الفلسطينية بدور المظلة الوطنية الجامعة، مستمدة شرعيتها من النضال الوطني التحرري والديمقراطية الممكنة داخل هياكلها . لكن مع توقيع اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية كمرحلة مفترضة على طريق الدولة التي ما زال يحظر علينا تجسيدها بحكم النظام الدولي القائم اليوم ، أصبحت الشرعية الانتخابية جزءًا من معادلة النظام السياسي الفلسطيني، رغم أن هذا المسار ظل معطلًا بفعل غياب الانتخابات وانقسام المؤسسات منذ عام ٢٠٠٦ ، ما خلق إشكالية مزدوجة ، تآكل الشرعية الثورية بفعل الرهان على حلول سياسية لم تتحقق ، وغياب الشرعية الانتخابية بسبب تعطل المسار الديمقراطي ، ما أدى إلى نشوء مراكز قوى تتحكم بجوانب من القرار الوطني الفلسطيني ورسم السياسات .

-- بين غياب الشرعيتين، كيف وصلنا إلى الأزمة الحالية؟
كانت انتخابات المجلس التشريعي عام ٢٠٠٦ آخر تجربة ديمقراطية برلمانية لانتخابات المجلس التشريعي ، لكنها سرعان ما قادت إلى انقسام سياسي ومؤسسي بعد انقلاب حماس في غزة ، ما أدى إلى تعطيل المجلس التشريعي وإلغاء دورته ، لتتعطل العملية الديمقراطية برمتها بعد ذلك . في المقابل ، شهدت منظمة التحرير الفلسطينية تهميشا لصالح السلطة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها، ولم يتم تفعيل هياكل المنظمة لضمان استمرار الشرعية الثورية أو الانتخابية الا في مرات محدودة طيلة الثلاث عقود الماضية ، ما أدى إلى هوة متزايدة بين القيادة السياسية وشعبنا الفلسطيني .
الأمر الذي يستدعي حوارا وطنيا واسعاً ومسوؤلاً يستوعب الرأي والرأي الوطني الآخر دون تبادل توجيه التهم والتشكيك بالنوايا طالما كانت من داخل البيت الوطني وحريصة على الارتقاء بدور المنظمة وكفاحنا التحرري للتخلص من الأحتلال ، وذلك من خلال لقاء وطني موسع يدعو له الأخ الرئيس بشكل عاجل ، تحت مظلة منظمة التحرير وبحضور الأطار القيادي المؤقت الذي أتفق عليه في لقاء الأمناء العامين سابقا ، لحين تصويب عضوية المجلس الوطني الفلسطيني ليكتسب صفة التمثيل الديمقراطي الجامع بالقدر الممكن ، خاصة في ظل اللغط الأمريكي والإقليمي لدعوات المطالبة "بالتجديد".

-- مراكز القوى ، البديل غير الشرعي للديمقراطية .
في ظل غياب الانتخابات وتعطل وحدة المؤسسات بالوطن الواحد ، برزت مراكز قوى داخل النظام السياسي ، حيث باتت القرارات تُتخذ بناءً على نفوذ نخب سياسية واقتصادية، بعضها مرتبط بتأثيرات خارجية إقليمية ودولية ، وهو ما أضعف القرار الوطني المستقل . هذا الأمر أدى إلى شلل سياسي عميق ، حيث لم يعد هناك فصل بين السلطات، وتراجعت المشاركة والرقابة الشعبية او البرلمانية ، وأصبح النظام الفلسطيني قائما على قاعدة الانقسام وعلى شبكة مصالح متشابكة تُعطل أي مسار ديمقراطي حقيقي ، باستثناء انتخابات المجالس المحلية وعدد من النقابات ومجالس الطلبة بالضفة الغربية دون اجراء ذلك في قطاع غزة الذي خضع لحكم الأمر الواقع من جانب حماس .

من جهة أخرى ، لعبت بعض القوى الدولية والإقليمية ، ومنها بالطبع الولايات المتحدة بتدخلاتها واشتراطاتها وتهديداتها ، وبعض دول الإقليم وحركة الإخوان المسلمين التي حاولت استمرار احتواء البعض ، دورا في التأثير على بعض مراكز صناعة القرار وبعض الفصائل الفلسطينية ، ما أضعف استقلالية القرار الوطني وجعل بعض القوى تابعة لأجندات غير فلسطينية . هذه التأثيرات والتداخلات ، إلى جانب الشراكة والدعم الأمريكي العميق لإسرائيل ، سهلت استمرار محاولات فرض حلول سياسية تتجاهل الحقوق الوطنية الفلسطينية غير القابلة للتصرف تتماشى مع مشاريع مثل "الشرق الأوسط الجديد" الذي تسعى الولايات المتحدة لتنفيذه قسرا بما يخدم أهداف التوسع الإسرائيلي الإستعماري بمشروع اسرائيل الكبرى.

-- التداعيات الخطيرة على المشروع الوطني الفلسطيني .
هذه المؤثرات وهذا الوضع الداخلي انعكس على مكانة القضية الفلسطينية دوليا حتى مع اصدقاء لنا ، حيث تستغل إسرائيل حالة التآكل السياسي والانقسام الداخلي لتعزيز مشروعها الاستيطاني الأحلالي . كما أن غياب الشرعية الديمقراطية أضعف الدور الفلسطيني على المستوى الدولي، وفتح الباب أمام ضغوطات أمريكية وإسرائيلية ودولية لمحاولة فرض حلول لا تتناسب مع الحقوق الوطنية الفلسطينية غير القابلة للتصرف ، بينما تواصل بعض القوى الإقليمية ، لعب أدوار تؤثر على استقلال القرار الوطني الفلسطيني لصالح مشاريع أوسع بالمنطقة لا تتفق بالضرورة مع المصلحة الوطنية في غياب مشروع قومي عربي .

-- كيف يمكن الخروج من الأزمة؟
الحل لا يكمن في إعادة إنتاج الوضع القائم ، بل في إعادة بناء الشرعية الوطنية على أسس جديدة تضمن التكامل بين الشرعية الثورية والشرعية الانتخابية ، وهذا يتطلب :
1. تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كمظلة جامعة لكل القوى الفلسطينية ليس للفصائل فقط على أهمية دورها ، وذلك من خلال انتخابات ديمقراطية للمجلس الوطني الفلسطيني وبالتالي المركزي واللجنة التنفيذية وفق النظام ، أو عبر إعادة تصويب عضوية المجلس الوطني وفق معايير وطنية كفاحية ومهنية مختصة في حال تعذر اجراء الانتخابات اليوم ، بما يضمن استعادة دوره كأعلى هيئة لمنظمة التحرير وتشكيل الهيئات الاخرى .
2. إجراء انتخابات رئاسية وللمجلس التشريعي لتجديد النظام السياسي الفلسطيني ، على أن تكون جزءًا من استراتيجية مواجهة الاحتلال ، و كاستحقاق وطني في اقرب وقت يتاح به ذلك .
3. تفكيك مراكز القوى غير المنتخبة وإعادة بناء المؤسسات على أسس ديمقراطية ووطنية على قاعدة الانتماء بعيدًا عن الولاءات الفئوية والشخصية والتأثيرات الخارجية.
4. تعزيز الوحدة الوطنية عبر رؤية سياسية موحدة تتجاوز الحسابات الفئوية والمصالح الضيقة، وتشمل كل قطاعات المجتمع الفلسطيني، خصوصا المستقلين ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي خاصة الشباب منهم ، بعيدًا عن أي وصاية إقليمية أو دولية .
5. تشكيل حكومة تحظى بتوافق وطني تنهض بإدارة كل الوطن كوحدة واحدة بمرجعية منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها صاحبة الولاية السياسية والجغرافية والقانونية على اراضي دولة فلسطين المحتلة ، وإنجاز الإغاثة والإعمار اعتمادا على صندوق عربي لمواجهة التهديدات الترامبية ، ودعم صمود شعبنا بالبقاء والتمكين ، بعيداً عن أي تدخل خارجي . حكومة تعبر عن الاستجابة لقرارات الإجماع الوطني في الوحدة وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسسٍ تعددية ديمقراطية تشاركية . إن الترجمة العملية لهذا الالتزام تتطلب إرادة واضحة وفاعلة لإنهاء الانقسام الفلسطيني ، باعتباره قضية وطنية إلزامية بتطبيق إعلان بكين ، دون المزيد من الدعوات للحوار والوساطات الجديدة أو الشكلية ، فوجودنا الوطني اليوم في خطر لا يحتمل الانتظار .

-- دور حركة فتح .
ومع اقتراب انعقاد المجلس الثوري لحركة فتح خلال الأيام القادمة ، تبرز الحاجة إلى نقاش جاد يتجاوز الصراعات الداخلية والمناكفات الانتخابية في هذا اللقاء ، يركز على استعادة دور الحركة كطليعة للحركة الوطنية الفلسطينية للوصول الى التحرر الوطني الديمقراطي ، بحيث تكون قادرة على إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيل مؤسساتها، بما يضمن مشاركة حقيقية لكل القوى الوطنية في الكفاح ضد الأحتلال ، بعيدًا عن التبعية والضغوط الخارجية وفق المقترحات الوارده اعلاه بالمقال . ومن اجل الوصول باللقاء الى رؤية وبرنامج وخطط وأدوات واضحة تاخذ بعين الاعتبار المتغيرات والمستجدات المتسارعة على كل المستويات لمجابهة التحديات الخطرة .

-- بين الممكن والضروري.
ان إعادة بناء الشرعية الوطنية ليست ترفًا سياسيا، بل ضرورة وجودية للحفاظ على المشروع الوطني الفلسطيني التحرري . فالتاريخ يؤكد أن الشعوب التي تفقد شرعيتها الداخلية تصبح عاجزة عن مواجهة التحديات الخارجية. والسؤال المطروح اليوم ، هل نملك الإرادة لكسر هذه الحلقة المفرغة واستعادة القرار الوطني المستقل وحماية ابناء شعبنا في نظام سياسي تحرري وتعددي وتشاركي ، أم سنظل رهائن لمعادلات أضعفت قدرتنا على تحقيق التحرر الوطني الديمقراطي؟ الكرة الآن في ملعب القوى السياسية، وتحديدًا حركة "فتح" ، لكنها أيضًا في ملعب الشعب الفلسطيني الذي يملك وحده الحق كمصدر للسلطات وفق وثيقة اعلان الإستقلال في تحديد مسار النظام السياسي على قاعدة القرار الوطني الديمقراطي المستقل .