الكاتب:
لا يخفى على أحد الأحوال الكارثية التي يعيشها أبناء شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، حيث أن معظمهم يعيش يومه باحثاً عن الماء أو الغذاء أو الدواء أو الكساء، لا يحميه ولا يغيثه أحد سوى ما تسمح به إسرائيل بعد فحص وتدقيق مرير. شعبنا الفلسطيني الذي ضحى بأكثر من مئتي ألف شهيد ومفقود وجريح، بالإضافة إلى ما نسبته 80-90% من مبانيه وبنيته التحتية وتسمم الهواء والتربة بالغازات جراء الغارات المكثفة بأسلحة تجرب لأول مرة. الحياة في غزة تكاد تكون مستحيلة بهذا الدمار وهذا الغياب للجهات الدولية والإقليمية وهذا الصمت المتزايد للمقتلة المستمرة للحجر والشجر والبشر على حد سواء. حيث من الواضح أن الجميع ينتظر نهاية هذه الحرب التي توصف بأنها حرب إبادة وتهجير، موقف الانتظار هذا جعل كثيرا من الدول والأطراف وحتى الهيئات الدولية تحجم عن اتخاذ قرارات حاسمة أو قادرة على كبح جماح الألة العسكرية القاتلة، التي تعمل في القطاع وفي الضفة الفلسطينية دون توقف. ومما "زاد الطين بلة" هو تطابق الموقفين: الأمريكي والإسرائيلي، وخصوصا بعد انتخاب دونالد ترامب الذي من الواضح أنه واقع تحت تأثير لوبيات ضغط متطرفة من أمريكا وإسرائيل، ليس من الصدفة أن يتبنى ترامب أقصى مواقف اليمين المتطرف، وليس من الصدفة أن يصر هذا الرئيس على معاداة الشعب الفلسطيني بهذه الصورة المستفزة والمتواصلة، ويمكن القول أن ترامب بهذه المواقف المتطرفة أشد التطرف إنما يكمل صفقة القرن الأولى بصفقة أخرى تنتهي ليس بحل الدولتين فقط، وإنما تفكك الشعب الفلسطيني من خلال التهجير في القطاع والضم في الضفة المحتلة، وإجبار العالم العربي على قبول إسرائيل والتطبيع معها دون تقديم أي تنازلات أو أثمان سياسية وغيرها.
الموقف الأمريكي والإسرائيلي الأن تجاوز كل المشاريع والأخطار المطروحة، وبدأ بأقصى ما يمكن للسيناريوهات الخطرة أن تكون، ألا وهي التهجير والضم. فالخطر داهم، بمعنى أن الكلام يدور حول التخلي عن حل الدولتين، وحول عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني كشعب له حقوق، تم الاعتراف بها من قبل كثير من الهيئات الدولية. الموقف الأمريكي والإسرائيلي يتجاوز القرارات الدولية واعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، ويتجاوز القرارات الصادرة عن الهيئات الدولية كالمحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدولية.
هذا الغلو والتطرف الإسرائيلي والأمريكي وصل بهما الغرور والغطرسة إلى الطلب من الدول العربية وخصوصا مصر والأردن إلى المشاركة في تحمل أعباء الاحتلال من خلال استقبال " المهجرين " الفلسطينيين، ومن خلال شطب الدولة الفلسطينية، ومن خلال المساهمة الفعلية في تفكيك الشعب الفلسطيني، في مقابل بقاء ضخ الأموال الأمريكية إلى كل من الشقيقتين مصر والسعودية. هكذا ولأول مرة يطلب من الأشقاء العرب المشاركة ليس في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإنما في تعميق هذا الصراع وتأجيجه إلى أبعد مدى.
لأول مرة يطلب من الدول العربية الشقيقة أن تتبنى رؤية الاحتلال وأن تكافئه وأن تخلصه من أعبائه؛ ولهذا السبب بالذات فإن أشقاءنا العرب رفضوا ذلك رفضا قاطعا، وذلك على لسان كل من جلالة الملك عبد الله الثاني والرئيس عبد الفتاح السيسي، هذا الوضوح في الموقف كان ضروريا جدا ، ذلك إن فكرة التهجير والضم تمس بالمصالح القومية والأمنية لكل بلد عربي على حدة ولهم جميعا مجتمعين، ذلك أن تهجير الفلسطينيين الان هي وصفة حقيقية لموجة جديدة كبيرة وواسعة من عدم الاستقرار في المنطقة. هذا التهديد الأمريكي فتح أمام الأشقاء العرب أبوابا من الاحتمالات الخطيرة جدا، ولذلك لم يكن من المستغرب التداعي من أجل عقد اجتماع في الرياض يضم الأطراف العربية: الأردن ومصر والإمارات والسعودية وقطر يوم 20/2؛ لوضع خطة للمواجهة لإفشال فكرة التهجير لأهلنا بالقطاع والضفة والاشتباك. وذلك قبل انعقاد القمة العربية المقررة في القاهرة في السابع والعشرين من الشهر الحالي تخصص كليا للشأن الفلسطيني والتحديات الجديدة. اجتماع الرياض هو الاجتماع الأهم ربما، بسبب أن قرارات هذه القمة لن تخرج عن رفض التهجير أو التجزأة، وعن أن السلطة الوطنية هي صاحبة الولاية في قطاع غزة، وهي المخولة بإدارته، وأن الحل عربي بمساعدة دولية بما يضمن الرعاية والإعمار والتغطية السياسية، وأن على حماس أن تتحلى بالحكمة والنضج والواقعية السياسية بحيث تسمح للمظلة العربية أن تتحرك بسهولة ويسر، وهذا يعني أن اجتماع الرياض المقرر في العشرين من هذا الشهر ستقدم رؤية واقعية وواضحة للولايات المتحدة ولإسرائيل وللعالم كله للخروج من عنق الزجاجة الذي دخل الجميع إليه، بالقول أن السعودية بثقلها النوعي الكبير مخولة لالتقاط الدور التاريخي المناط بها لقيادة الجهد العربي لإخراج القضية الفلسطينية مما تعانيه من جمود ومراوحة، وذلك برؤية سياسية واقعية تجنب الشعب الفلسطيني التهجير والضم والتفكيك والعذاب. من خلال تسوية سياسية في قطاع غزة أولا والضفة المحتلة ثانيا، رؤية تقوم على وقف الحرب وإعمار غزة وعودة السلطة الفلسطينية واحتواء حماس بحيث لا تتصدر المشهد والحفاظ عليها كجزء من الشعب الفلسطيني.
وفي هذا الصدد، وللحقيقة والموضوعية، فإن حماس تعرف أنها محاصرة سياسيا وعسكريا، وتعرف أنها لا تستطيع مساعدة شعبنا في القطاع، ولهذا طرحت فعليا وعمليا أنها مستعدة للتخلي عن إدارة غزة ضمن اتفاق فلسطيني فلسطيني، وهذا طرح جيد ويمكن البناء عليه. أكثر من ذلك، فإن حماس ومن خلال الدفعة السادسة لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين وضعت صورة كبيرة أظهرت فيها أعلام الدول العربية الرافضة للتهجير، ومن ضمنها علم الشقيقة السعودية، في إشارة فعلية وعلنية من حركة حماس للقول أنها تستظل بهذا الجهد العربي وتلك الدبلوماسية العربية، وموافقة على الخطة المصرية العربية لإعادة إعمار غزة.
وهذه إشارات يبنى عليها للقول لحركة حماس بكثير من الصدق والمحبة أيضا أن عليكم أن لا تكونوا ثقبا في جدار الموقف العربي الذي يبدي صلابة ووحدة في مواجهة التنمر والتطرف الأمريكي، عليكم أيها الأخوة في حماس أن تقدموا كل ما تسطيعونه من أجل إنجاح الرؤية العربية من خلال التعاون مع تفاصيل تلك الرؤية، يجب الاعتراف بعدم القدرة على إعادة إعمار القطاع ، بدون الأشقاء في السعودية ومصر والأردن والإمارات وغيرهم من الدول، وأن ذلك لن يتم دون موافقات ضمنية أو علنية من أمريكا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، لهذا لا بد من واقعية سياسية ورؤية حكيمة للمرحلة، لا أحد يتحدث هنا عن هزيمة، ولكن لا بد من الحديث عن تغيرات فعلية في منطقتنا والعالم، لا أحد يتحدث عن التنكيل أو تغييب حركة حماس بل عن إعادة موضعتها في الحياة السياسية الفلسطينية، تسألون عن سلاح حماس، الذي يشكل القضية الأكثر إشكالية. حسنا، بالإمكان أن يتم تسوية هذا الأمر بضمانات حقيقية وأكيدة من السلطة الوطنية والجانب العربي، برعاية كريمة من الرئيس السيسي وولي العهد السعودي والأمير محمد والملك عبد الله الثاني. لا أحد يتحدث أو يطرح احتلالا عربيا، أو استبدال التهجير بحرب داخلية فلسطينية عربية أو فلسطينية فلسطينية. هذا مستحيل، لا يمكن أن يتم أي شيء في القطاع دون موافقات فلسطينية فلسطينية، وكان الرئيس محمود عباس وما يزال يشكل جداراً قوياً لحماية القرار الفلسطيني والتمثيل الفلسطيني، وكان ولا يزال مصراً على التوافق الفلسطيني الفلسطيني، فلا إكراه ولا غصب ولا إختطاف، وانما توافق فلسطيني حقيقي يسمح بدخول مرحلة جديدة بأقل الخسائر، ولكن ولأن الوقت يجري بسرعة، ومعاناة الشعب الفلسطيني في القطاع تتعمق في كل لحظة، فإن على أخوتنا في حماس أن يبادروا إلى تقديم الرؤية الكفيلة باندماجهم في الحياة السياسية الفلسطينية، وتولي السلطة الفلسطينية بقيادة ورعاية السيد الرئيس أبو مازن الأمر في القطاع بدعم وضمان ورعاية عربية وصولا إلى دولة فلسطينية مستقلة، تعتمد في ذلك مرة أخرى على هذا الجهد العربي المنسق المبارك.
أن م.ت.ف المعترف بها دولياً، هي صاحبة الولاية القانونية والسياسية والادارية على أراضي دولة فلسطين قطاع غزة والضفة الفلسطينية والقدس. هذه هي رسالتي لحركة حماس.