الكاتب: مروان أميل طوباسي
بينما ينشغل العالم بملفات دولية وإقليمية ساخنة اليوم ، شهدت عدد من المناطق السورية خلال اليومين الماضيين توغلا عسكريا اسرائيليا من جانب ، ومجازر مروعة ارتكبتها قوات وعصابات نظام غزوة الجولاني القائم بحكم الأمر الواقع ، وأدت إلى مقتل المئات من السوريين الأبرياء من جانب اخر ، وهي مجازر مستمرة حتى اللحظة . هذه التوغلات والمجازر ليست مجرد أحداث معزولة ، بل تأتي في سياق الفوضى والتفتيت الذي يُفرض على سوريا منذ سنوات ، كجزء من إعادة تشكيلها وفق مشاريع إقليمية ودولية لا تقل خطورة عن الإستعمار المباشر عن طريق اعادة هندسة المنطقة والسيطرة على مقدراتها الهائلة من الغاز والنفط وبعض المعادن ومكانتها الجيوسياسية الهامة اضافة الى مصادر المياه .
وفي الوقت الذي أبتعِدُ في مقالي هذا اليوم عن الحديث المباشر عن أوضاعنا الفلسطينية المتأزمة بفعل جرائم الأحتلال الإسرائيلي المستمرة وخطورة ما يجري حتى من ضعف في مواجهة ذلك ، إلا أنني أرى ارتباطا وثيقا بين ما يحدث في سوريا وما يحدث في فلسطين . فكلاهما جزء من مشروع أستعماري أمريكي أوسع ، يهدف إلى تفكيك الدول وإعادة رسم خرائط النفوذ بما يخدم المصالح الإسرائيلية والأمريكية . فكما يُنفذ المشروع الصهيوني في فلسطين عبر الأستيطان والضم والتطهير العرقي والتهجير المرتقب ، فإنه يُنفذ في سوريا عبر التدمير والتقسيم والتفتيت وخلق كيانات تابعة للقوى الإقليمية والدولية .
- الجولاني ، من الإرهاب إلى الشرعنة؟
في ظل تغييب الجوهر المفترض من المؤتمر الوطني وانعقاده الهامشي دون القوى الوطنية الديمقراطية في سوريا ، وهذا المشهد الدموي ، يبرز أحمد الجولاني كأحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل ، إذ تحوّل من زعيم لتنظيم إرهابي تكفيري مرتبط بـ"القاعدة" التي انشاتها الولايات المتحدة بالتعاون مع اسرائيل ، إلى شخصية يتم التعامل معها اليوم كأمر واقع ، بل وكشريك في الترتيبات الجديدة لسوريا . السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ، لماذا استعجلت بعض الدول العربية وغيرها في التعاطي مع الجولاني ، رغم تاريخه المعروف وواقع هذه الاوضاع ؟
هناك عدة عوامل دفعت بعض الدول العربية إلى التعامل مع الجولاني كرئيس لسوريا ، رغم خطورة نهجه وهي بتقدري :
١. تنفيذ الرغبات الأمريكية في اطار الوصول الى المخطط الخاص بها بالمنطقة اضافة لتمكينها من منافسة روسيا بالتواجد على الاراضي السورية . فالعديد من الدول تفتقر الى سيادة وأستقلال قرارها الوطني ، في محاولات لأسترضاء واشنطن دون ثمن مقابل ، وهي بذلك عن ارادة او بدونها تساهم في تمكين الولايات المتحدة من مشاريعها . اضافة الى رغبة البعض العربي بالاستثمار في عملية اعادة الإعمار ومن مخزون الطاقة .
٢. ملء الفراغ في الشمال السوري ، مع تعقّد الوضع الميداني ، يبدو أن بعض القوى الإقليمية تبحث عن قوى محلية يمكنها ملء الفراغات ، حتى لو كانت هذه القوى جزءًا من المشكلة في الأساس .
٣. التقارب مع تركيا ، بعد تحسن العلاقات بين بعض الدول العربية وتركيا، ظهر توجّه لدعم الكيانات التابعة لأنقرة في سوريا، والجولاني أحد أبرز هذه الأدوات.
٤. تحجيم النفوذ الإيراني ، بعض العواصم العربية تعتبر الجولاني أداة لمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، رغم أنه لا يمكن الوثوق بمدى استقلالية قراره عن داعميه ومشغليه الخارجيين .
٥. التواطؤ الأمريكي ، رغم أن واشنطن صنّفته كإرهابي مطلوب لها في السابق، إلا أنها اليوم تتجاهل تحركاته بل وتعمل معه وتدفع العديد من الدول للعمل معه والاعتراف بشرعيته وهذا ما تمثل بالزيارات التي تمت له أو زياراته الى بعض العواصم وحضوره القمة العربية ، مما يعكس وجود خطة لإعادة توظيفه على المدى الطويل في الترتيبات الجديدة لسوريا والدور الجديد المناط بها وظيفيا .
- التقاء مشاريع "العثمانية الجديدة" و "الصهيونية الأسرائيلية" في خدمة الهيمنة الأمريكية .
ما يجري في سوريا اليوم ليس مجرد صراع داخلي او انتقام من افراد النظام السابق ، بل هو جزء من ترسيخ حكم الامر الواقع بالإرهاب وإعادة تشكيل المنطقة وفق مشاريع إقليمية تلتقي في خدمة مشروع الشرق الأوسط الجديد في غياب مشروع قومي عربي . فالمشروع التركي "العثماني الجديد" ، يمتد من شمال سوريا حتى وسطها وشرقها وعلى حساب حق تقرير المصير للأكراد ، حيث تعمل أنقرة على فرض منطقة نفوذ دائمة هنالك ، عبر أدوات محلية مثل الجولاني ومجموعاته .
اما المشروع الإسرائيلي الصهيوني ، فيمتد من الجنوب إلى الوسط السوري وغربها ليتقاطع مع أحتلال مناطق جنوبي لبنان ، مستهدفا تفكيك سوريا ومنعها من استعادة قوة ردعها بعد تدمير مقدرات الجيش السوري وأحتلال مواقع على أراضيها ، مع توسيع نطاق العمليات العسكرية والاستخباراتية والتعاون في مجال سرقة مصادرها وتزوير تراثنا التاريخي ليصبح يهوديا بالإكراه .
لذا فان كلا المشروعين يتحركان ضمن الإستراتيجية الأمريكية الأوسع ، التي تهدف إلى إبقاء سوريا ممزقة وغير قادرة على تشكيل تهديد استراتيجي لمشاريعها وللهيمنة والتفوق الإسرائيلي المطلوب ، تماما كما يجري في فلسطين.
- هل نشهد "جولانيات" جديدة في دول عربية أخرى؟
إذا نجحت عملية إعادة تدوير الجولاني في سوريا ، فقد يتحول الأمر إلى نموذج يُعاد تطبيقه في دول عربية أخرى تعاني من ضعف الدولة المركزية والصراعات الداخلية . قد نشهد مستقبلاً شخصيات مماثلة يتم تسويقها في دول ومناطق أخرى من الاقليم ، تحت ذرائع مختلفة، مما يؤدي إلى مزيد من التقسيم وإضعاف الدول العربية لصالح قوى الأستعمار الإقليمية والدولية.
- التفكيك مستمر ما لم يتم التصدي له.
ما يجري في سوريا ليس مجرد أزمة داخلية، بل هو جزء من مشروع تفكيك أوسع ، تماما كما يسعون الى فرضه في فلسطين عبر تدمير إمكانية قيام الدولة والأبقاء على الفصل الجغرافي بين غزة والضفة والقدس واثارة الفوضى المنظمة . إذا استمر الانخداع بالترتيبات التي تفرضها القوى الاستعمارية الكبرى ، فقد نجد أنفسنا أمام خرائط جديدة لدول عربية ممزقة ، تخضع لحكم "جولانيات" محلية ، في خدمة مشاريع الهيمنة الإقليمية والدولية . والسؤال الهام هنا هو , هل سيدرك العرب فداحة هذا المسار ، أم أنهم يساهمون دون وعي في شرعنة قوى ستنقلب عليهم لاحقا لتسهل تنفيذ مشروع أسرائيل الكبرى ؟ رغم ان القمة العربية قد عجزت عن وضع رؤية وخطة متكاملة لمواجهة ذلك ومنع تنفيذ هذا المشروع الأستيطاني الواسع بالمنطقة ، فالمسألة لا يجب ان تقتصر على بحث أوضاع اعادة اعمار غزة فقط رغم اهمية ذلك بالطبع .