الأربعاء: 12/03/2025 بتوقيت القدس الشريف

الأفكار لا تموت إنما يستحوذ عليها

نشر بتاريخ: 11/03/2025 ( آخر تحديث: 11/03/2025 الساعة: 22:38 )

الكاتب: الدكتور عدوان نمر عدوان

كثير من المفكرين يعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي تغبّي متابعيها.
يستطيع متابع التواصل الاجتماعي أن يتابع الأحداث اليومية والسياسية والمجريات في اللحظة نفسها، ويستطيع أن يتعرف اللغات التي ينوي أن يتعلمها بطرق شتى، منها الكتابي واللفظي، والصوري، ويستطيع أن يعلق على منشور معين، ويتابع تعليقات الآخرين، ويتفاعل معها، ويقتبس منها ما كان ذكيا، ويستطيع أن يحسن من لغته الكتابية ويطورها تطويرا إيجابيا، وأن يتعرف نوعية المنتجات وموديلاتها وأسعارها، وأن يكون ابنا للحياة، وليس رجل كهف، ويستطيع أن يعرف الجوانب الخفية في أكثر الأمور حساسية، وما هو خارج الصندوق وما يكسر(التابو) من المسكوت عنه، ويتعرف الشيء ونقيضه، وآراء الأصدقاء والأعداء.
وبصراحة، فلقد رفعت وسائل التواصل الاجتماعي الوعي، ونظمت له سياقا عاما، ونسقا متواليا، وخاصة في مسألة المواطنة والوطن والأمة، والعلاقات مع الآخر، ومنحت صوتا للمهمشين لا سيما النساء اللواتي لم يكن لهن صوت قبله.
وسائل التواصل الاجتماعي حافظت على الذاكرة، بل أعادت علاقات أناس انقطعت بهم العلاقة والذاكرة لعقود، فأصبحوا يتابعون بعضهم وهم في عمر الأجداد، ومن الطريف أن يتواصل معك، أو يعلق لك شخص بلغ الثمانين حجة، وآخر فتى لم يشتد عضده، ولا وعيه بعد، فتعيش بين رزانة الحكمة، وطيش الفراشات على الأزهار .
الشيء ونقيضه هذا أهم ما في وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا ما يفتح مجالا للتعدد وتخفيف التطرف، ودمقرطة العقل، واستيعاب أطروحات الآخرين، وتوسيع الحواس، ومن يسقط من وسائل التواصل الاجتماعي يسقط من محور الحياة، وقد شوهد كثير من المرضى في أيامهم الأخيرة وهم يقلبون هذا الألبوم الواسع متحسرين على ما سبق، وما سيلحق من الأيام.
وسائل التواصل الاجتماعي نشرت الاشتراكية والمساواة، فالكل يقف على طوابيرها غني أو فقير، مفكر أو جاهل، يافع أو كهل، والكل يستطيع أن يعبر، وأن يكتب، ويتفق ويختلف في هذا العالم الافتراضي الذي يعلو فيه صوت البوح والصراخ والنقاش على صوت الجدال بالأيدي والعصي وإطلاق النار.
وسائل التواصل الاجتماعي هذبت الناس، وجودت أقوالهم وأفكارهم وفظاظاتهم، وأجبرتهم أن يكونوا مثاليين في طروحاتهم، ومن كان عنده تناقض بين أدائه وطرحه أضطر أن يحسن من أدائه مع الأيام ليتساوى مع طرحه، وأن يظهر صورته الجميلة في أدائه على أرض الواقع كما هي في العالم الافتراضي، إنها أشبه بفكرة التطهير اليونانية في هذا المسرح العالمي الكبير.
وسائل التواصل حسنت ووسعت المدارك، وهذبت النفوس ، وبالتالي هي نبتة مثمرة لمن أراد الإثمار، وذكّت من الناس من أراد أن يكون أذكى من إياس، وبصرت من أراد أن يكون أبصر من زرقاء اليمامة، أما من أراد أن يتصور طواحين التقدم التي تطحن الدقيق ليكون خبزا للناس عمالقة للقتال، وعدوا كامنا ينبغي محاربته، فستتكفل أذرع الحياة والتقدم برميه بعيدا خارج نطاقها مكسرا محطما دون أن يسعفه التاريخ ولا الجغرافيا.
ربما أراد الذين اخترعوا وسائل التواصل الاجتماعي أن يسيطروا على البشر، وأن يوجهوهم كما يوجهوا الخيل في الحراث، لكن مكر التاريخ دائما لأصحاب السيطرة والسلطة بالمرصاد، فقد تعلم الناس أدوات الاستقلال والدفاع، وعرفوا أساليب السلطان من الدراسة في قصره ومخالطتهم له، وأدركوا كيف يسوقون مصيرهم بعيدا عنه، وفي كل مرة يبدل الثعلب من أساليبه وحكاياته تستطيع ديكة الحي أن تتعرف عليه بالنظر إلى فرائه من أعالي الأشجار، فما من فكرة تموت إنما الأفكار يستحوذ عليها الذين اخترعت لقتلهم.