الكاتب: د. جمال زحالقة
في ساعات السحور، فجر الثلاثاء الماضي، شن الجيش الإسرائيلي على مناطق مختلفة في قطاع غزة 80 غارة جوّية خلال 10 دقائق، وواصل الطيران الإسرائيلي، بعد الضربة المباغتة الأولى، قصفه الوحشي على القطاع، ما أدّى إلى استشهاد المئات من المواطنين وإلى جرح أعداد كبيرة من الأهالي. ودعا جيش الاحتلال سكّان مناطق شرق غزّة لمغادرتها غربا مهددا بأن من يبقى فيها «يعرض حياته للخطر». وأعلنت إسرائيل من خلال استئناف القصف واسع النطاق، ومن خلال سلسلة من البيانات النارية، عن انتهاء وقف إطلاق النار الذي استمر حوالي الشهرين، وعن عودة إلى القتال المكثّف من خلال القصف الجوي والبحري والبرّي، مع التهديد بالاجتياح الشامل وبتوسيع العملية لاحقا «إذا اقتضت الضرورة».
في شريط مسجّل بُثّ مساء الثلاثاء بعد غارات الفجر، حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ربط العملية العسكرية بقضية المحتجزين الإسرائيليين في غزّة قائلا، إن «الضغط العسكري هو شرط لازم لتحرير المحتجزين»، وكرر التزامه بتحقيق أهداف الحرب «تحرير المختطفين والقضاء على حماس وعدم نشوء تهديد لإسرائيل من غزّة». وعلى عكس عادته، لم يكرر نتنياهو صيغة «أصدرت الأوامر للجيش..» وقال إنّه «قَبِل توصية الجيش والجهات الأمنية للعودة للقتال المكثّف ضد حماس». ويعود ذلك إلى أنّه يعرف أن هناك معارضة قوية لاستئناف الحرب، لأنّها وفق ما تقول العائلات «تعرّض حياة المحتجزين للخطر»، كما أنّه أراد تفادي تهمة إشعال المعركة العسكرية لتحقيق أغراض سياسية حزبية وشخصية.
أكّد المتحدثون الإسرائيليون الرسميون في تصريحاتهم بعد الغارات الجوية على غزّة بأنّه لن تكون هناك هدنة مؤقتة، إلّا في إطار صفقة تبادل، وعادوا إلى التشديد على الموقف الإسرائيلي الرسمي بأن «نهاية الحرب هي نهاية حماس». وأعلن نتنياهو أن المفاوضات ستجري من الآن فصاعدا تحت النار، واعدا ومتوعّدا أنّها «فقط البداية»، وأنّ الضغط العسكري سيزداد حتى تتراجع حماس عن موقفها. وجاء اختيار القصف الجوي في هذه المرحلة، لأنّه سيكون من السهل إيقافه والعودة إلى المفاوضات، إذا لاحت فرصة للتوصل إلى اتفاق، وهذا ليس بالمستبعد والوسطاء يعملون عليه بقوّة، وإلا فستواصل إسرائيل حربها الإجرامية بدعم أمريكي كامل.
الصفقة
أنهت الغارات الإسرائيلية المباغتة والوحشية ثلاثة من عمليات وقف إطلاق النار، بلا تعاقد رسمي متفق عليه من الطرفين، وبلا تحرير محتجزين إسرائيليين. إسرائيل هي التي خرقت الاتفاق وهي المسؤولة عن جرائم الحرب، ولكن مسؤولية الوسطاء العرب ومعهم الدول العربية مجتمعة، هي الدفع باتجاه لجم الانفلات الإسرائيلي، الذي يؤدي إلى نزيف دم فلسطيني. لقد نشأت حاجة ملحّة للتوصل إلى مسار يوقف العدوان الإسرائيلي ويعيد الهدنة، ولو كهدنة مؤقّتة حاليا. الموقف الإسرائيلي -الأمريكي هو أن المرحلتين الثانية والثالثة من الصفقة ليستا ملزمتين بالنسبة لهما. وطرحت الولايات المتحدة، ومن خلفها إسرائيل، صيغة جديدة هي «مبادرة ويتكوف»، التي تنص على إطلاق سراح 10 محتجزين أحياء مع 11 من الجثث، مقابل إطلاق سراح عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، ووقف إطلاق النار لمدّة شهرين. ووفق مقترح ويتكوف تجري في ظل وقف إطلاق النار المؤقت مفاوضات حول المرحلة النهائية، التي لم يجر تحديد معالمها في المبادرة.
لم ترفض حماس رسميا هذا المقترح وأبدت انفتاحا على إطلاق سراح عدد أصغر من المحتجزين، لكنّها طرحت السؤال الأهم وهو متى وكيف ستنتهي الحرب وتكون هناك هدنة مستدامة، كما نص الاتفاق الأصلي؟ هنا تبين التطابق التام بين الموقفين الأمريكي والإسرائيلي، بربط إنهاء الحرب بثلاثة شروط: الأول تجريد حماس من سلاحها وتفكيك قواتها العسكرية، والثاني إبعادها عن الحكم، والثالث إجلاء قياداتها عن غزة. هذه شروط لا تقبلها بها حركة حماس، وهي تلقي ظلّها الثقيل على أي حديث عن اتفاق مرحلي جديد، فإذا كانت المحطّة الأخيرة مرفوضة، فلمَ السير نحوها؟ وكيف لأحد أن يقبل أن يسير في طريق برفقة من يقول علنا، إن نهاية الطريق هي القضاء على هذا الأحد؟ لم يحاسب أحد إسرائيل على أنها لم تلتزم بالاتفاق الذي وقّعت عليه، إذ لم تبدأ مفاوضات المرحلة الثانية، كما التزمت، ولم تنسحب من محور صلاح الدين (فيلادلفيا) كما تعهّدت، واستدعت بدل ذلك المبعوث الأمريكي ويتكوف ليطرح مبادرته (التي هي مبادرة إسرائيلية أصلا). وفي ظل مثل هذا «التسامح» مع خرق الاتفاقات، ما الذي يضمن ألّا تعود إسرائيل إلى القتال حتى بعد الاتفاق على إطلاق سراح جميع المحتجزين والتوقيع على هدنة مستدامة؟ لذا فإن إصرار حماس على تنفيذ المرحلة الثانية من الصفقة والالتزام بالاتفاق له ما يبرره، لأنه لا معنى للاتفاق إذا لم يكن هنا إصرار على الالتزام به. ومع ذلك، يبدو أن حركة حماس مستعدة لإبداء الليونة، وللقبول بمسار جديد، شرط أن يفضي إلى النتيجة نفسها: إنهاء الحرب والشروع في إعادة الإعمار.
حسابات سياسية داخلية
يمكن القول إن استئناف «القتال المكثّف» في غزة، عزّز قوّة ائتلاف نتنياهو، وأطال عمر حكومته، وأبعد عنها شبح الانتخابات المبكّرة. وذهب معظم المحللين الإسرائيليين إلى القول، إن الدافع الرئيس لنتنياهو لاستئناف القتال في غزة في هذه المرحلة تحديدا، هو إقناع إيتمار بن غفير رئيس حزب «العظمة اليهودية، بالعودة للحكومة، بعد أن اشترط عودته بالعودة إلى الحرب أولا، وبإقرار إقالة المستشارة القضائية للحكومة ثانيا وبإقالة رئيس الشاباك من منصبه ثالثا. وبعد أن تحققت شروطه الثلاثة، عاد بن غفير إلى الحكومة، التي أصبحت الآن تتمتع بأغلبية برلمانية كبيرة، تمكنها من تمرير الميزانية بسهولة، ومن سن قوانين «الانقلاب على القضاء»، الهادفة إلى سيطرة اليمين على الدولة العميقة. لقد حدّد نتنياهو موعد إعلام رئيس جهاز الشاباك رونين بار بإقالته قبل شن الهجوم العسكري الجديد على غزّة، آملا صرف الأنظار عن الإقالة ومنع تطوّر احتجاجات واسعة عليها. لكن ما حدث هو امتزاج السخط على تجديد القصف الواسع، الذي يعرّض حياة المحتجزين للخطر، بالغضب على إقالة رئيس الشاباك، بسبب إجراء تحقيقات «أمنية» مع موظفين في مكتب نتنياهو. وظهر هذا التداخل جليا في مظاهرة تل أبيب، التي شارك فيها عشرات الآلاف، وقد يتطوّر الاحتجاج لاحقا، خاصة أن كل استطلاعات الرأي تظهر بشكل حاسم، أن الغالبية الساحقة من الإسرائيليين يؤيدون التوصل إلى صفقة تعتمد على إطلاق سراح جميع المحتجزين وإنهاء الحرب، وتظهر كذلك معارضة الغالبية لإقالة رئيس الشاباك، لأنّها تأتي على خلفية مصالح سياسية وليس لاعتبارات «مهنية». نتنياهو يقوم بإزاحة كل من يعارضه الرأي ولا ينصاع لإرادته، خاصة في الأجهزة الأمنية، فبعد أن أقال وزير الأمن يوآف غالانت، فرض الاستقالة على رئيس الأركان هرتسي هليفي وعلى عدد من الجنرالات وكبار الضبّاط، وأتم قبلها سيطرته على جهاز الشرطة، وأخيرا أصدر قراره بإقالة رئيس الشاباك، وبدأ عملية إقالة المستشارة القضائية للحكومة. ويعمل نتنياهو مع وزير القضاء الإسرائيلي، يريف لفين على إدخال تغييرات واسعة في الجهاز القضائي، تضمن سيطرة حكومة اليمين عليه. ويثير كل هذا غضبا كبيرا في أوساط المعارضة، التي كانت منذ بدء الحرب «منضبطة» ولا تطرح على نتنياهو تحديات جدّية.
يثير نتنياهو غضبا في أوساط واسعة في الشارع الإسرائيلي، ليس بسبب موقفه من قضية المحتجزين فحسب، بل لسلسلة من الأسباب تتلخص في أنّه يسعى إلى «الحسم الداخلي» وإلى السيطرة على الدولة العميقة، وعلى كل مفاصل الحكم والقوّة في الدولة والمجتمع. وهناك إمكانية جدية بأن يتطوّر حراك جماهيري واسع ضاغط على حكومة نتنياهو، ليس بسبب قيادة المعارضة البرلمانية الخاملة، وإذا وجّهت ضغوط عربية جدية على الولايات المتحدة وعلى إسرائيل لوقف الحرب الإجرامية، فإن الضغط الخارجي مع الضغط الداخلي قد يجبران نتنياهو على وقف الحرب والذهاب إلى هدنة مستدامة. وقف نزيف الدم الفلسطيني بحاجة إلى حنكة سياسية عربية وإلى مسؤولية فلسطينية وإلى إرادة وإلى قيادة تأخذ دورها التاريخي.