الكاتب: يونس العموري
في انتظار الارتطام بالقعر الذي لم تتضح معالمه، حيث أضحى الهدف هو الاستقرار عند القاع، والقاع أصبح مزدحما، والقابع هناك له أن يقرر ما يشاء وله أن يصدر الفرمانات وله الطاعة، ولنا أن نكون حيثما يجب أن نكون، ولنا طاعة صرخة اللحظة المنطلقة من أرصفة الاهمال عند عبور مواكب سادة القوم المنشغلين في اعادة ترتيب المفاهيم وفقا لمنظومة القهر واحتراف فعله، وهم المتربعون على عرش الخوازيق، ونحن المنتظرون لبشارة كبيرهم الذي علمهم السحر، وكنا قد اشبعناهم شتما، وفازوا بالأبل، وعلينا الخنوع والركون والانتظار لما تجود به عطايا الفرمانات الجديدة، ويظل القهر والانهيار أبرز العناوين المرتسمة على جباه التائهون المتخبطون في ثنايا البحث عن القاع.
وللقهر أنواع ولعل أسوأ أنواع القهر هو أن نرحل قبل أن نرى كبارهم وزبانية الظلام، وأرباب الأجندات المتآمرين على الحلم والمفرطين، والذين أضاعوا الحلم وقبلوا بأنصاف الحلول والمساومة على الحق والحقوق، وهم يقفون أمام عدالة جماهير الغضب.
أيها الليل القادم وبالسواد مكللا انتظر قليلا لعلنا نحزم أمتعتنا، ونلملم بقايا ذكريات المدائن لنستعد لرحلة الرحيل نحو الغرب أو الجنوب لا فرق، فاللجوء صار هدفا من أهداف من يركب البحر هربا من وقائع الواقع الراهن، وتظل روما هي القبلة الجديدة، وقد تكون غرناطة البهية الناطقة بغير العربية واحدة من مدن قد تستقبل العرب العاربة المستعربة المنكرين المستنكرين لذواتهم الآن..
أيها الليل، يبوس قد أضحت بالعبرية ناطقة، والصفقة بأزقتها يتم إبرامها، بعد أن خانتها أبجديات العربية، مثل غرناطة التي أضحت بغير الضاد متحدثة..
وللرحمة باب يرحم من يعبره فاتحاً مهللا مكبراً بالعربية ناطقا وبالفتح للمضامين شاهرا ومعبرا عن ذوات الإيمان بحتمية الانتصار، وللإعلان معلنا عن إعادة النطق، والناطق يجوب الحواري والأزقة في ظل استغاثة الحجر قبل البشر، أيها الليل الحالك السواد انقشع ولو للحظة، واترك بينهم مسافة ومساحة.
للرحمة عناوين، والعنوان هنا يعني بالضبط هنا ما يعني انكسار الخوف وحاجز الرعب والترهيب والعصا المصاحبة للجزرة صارت حكاية مبتورة لا تغني وتسمن من جوع، واضحت العين تناطح المخرز، والكف تتصدى للسكين حادة النصل والقاطعة للوريد، وصار التمرد العنوان الأبرز في الحواري العتيقة، بعد أن أصبح القرف من يوميات الحصار وسويعات الانتظار عند البوابات العملاقة الموصدة، والتي تخفي خلفها الكثير من العشق الروحي المتأصل للمكان، كان القرار وما زال بإسقاط المحرم والمحرمات وتخطي الخطوط الحمراء وتلك المسماة بالسوداء وعدم الالتزام بالخطوط المتعرجة المرسومة المرتسمة بفعل أنصاف الحلول وضياع الحلم، من قبل حفنة من اشرار البزنس وعقد الصفقات على حساب الوجع والحب والقعود عند أطراف الجبل الصامد.
وكانت أن سقطت مدائن الفتح الأولى، وإيلياء ما زالت صامدة مقاومة بالقليل من زيت القناديل، ورجالها مطاردون مطرودون وممنوع عليهم الاقتراب من بيت الرب، وكانت أن سقطت أيضا غرناطة، وغادر العرب والعجم ومن آمن بالعربي الأمين رسولا ونبيا، ومن يوحد بذكر الله بتلك الروابي، وكان للاستسلام معنى آخر، ووجها مختلفا في مفاصل التاريخ، ونصبت أعواد المشانق في ميادين المدينة الأجمل، وامتطى أمير الانهزام صهوة جواده موليا الأدبار، باكيا شاكيا ضياع الملك والفردوس المفقود، وقف هناك على تلةٍ غير بعيدة تطل على درة العالم وحاضرة الحضارة بذاك الزمن الجميل، وقفَ أبو عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة والدموع تجري من عينيه يبكي ملكه الذي أضاعه بيديه، بعد أن أبرم المعاهدة تلو المعاهدة ليحافظ على عرشه متكئاً، حتى اضطرته معاهداته إلى تسليم مفاتيح المدينة إلى حلفائه الذين كان من المفترض أنهم بحلف استراتيجي معه، وحيث أن الانهيار لا قاع له، فكان الانهيار مدويا، وسقطت غرناطة، وخرج ملك ملوك الصغار ذليلا وصرخت بوجهه العجوز قائلة (ابك مثلَ النساءِ ملكاَ مضاعاً لم تحافظ عليهِ مثلَ الرجالِ ) ...
وها نحن نغادر منطق الثورة، ومنطق الممانعة ، ليكون الاستسلام مرة أخرى في خطوة أولى لتسليم مفاتيح مدائننا العتيقة ومغادرة الأزقة، لنقف على أطلال التاريخ في محاولة منا لاستذكار الزمن الجميل، ونسطر بعضا من مرثيات الحزن في ظل الواقع المرير، والخوف من المستقبل السقيم..
هو السقوط والانهيار والضياع جراء انعدام الرؤية، واذا كانت غرناطة قد سقطت بفعل هذا الانهيار، بالتالي كان وسيكون الواقع المرير والأثمان على الطرقات مدفوعة، وتنفيذ الأوامر الجديدة واحدة من أعراف القبائل الجديدة، وهؤلاء المؤمنون بلحظة الخلاص يتشبثون بطوق النجاة وإن كان وهما.
تسقط المدائن بفعل تقديرات قد تكون خاطئة من أولي الأمر، ويسقط المعنى حينما نغادر مواقعنا ونتمترس خلف السراب، ونعتقد أننا بذلك صامدون ومن الممكن أن نحلق في عوالم الإنجاز، والإنجاز له أصوله في أعراف أئمة اللحظة والواقع، وما زلنا نتغنى بالأندلس الجميل، وبمعنى الحضارة وبالقصور المشيدة على تلال المدائن المفقودة، وبالضاد ناطقة تروي الحكاية من أولها.
هو المعنى لماهية السقوط حينما نستذكر التاريخ بحضرة الواقع المرير، وهي المعادلة التي تفرض نفسها منذ البدايات، فبلا شك أن السقوط هو المرداف الطبيعي لمغادرة منصة التمسك بالثوابت والعمل عليها وضياع القوانين الحاكمة لمنطق الأشياء، والطبيعة لا تقبل الفراغ بالمطلق والبقاء للأقوى، والقوة هنا التمسك بالحق والصمود بوجه التنين وعدم الرضوخ والقبول بالاستسلام، بصرف النظر عن منطق القوة وجبروتها، والبقاء للأقوى بمعنى قوة المنطق وأطروحة الحق وعدم التنازل، وصكوك الغفران واحدة من أضحوكات منطق قوة الآخر في محاولة منه لاستباحة الحق والتشكيك بالسياق التاريخي، واختلاط الحقائق قد بات سيد الموقف والألوان تدخلت ببعضها، فلم يعد واضحا حقيقة الأسود من الأبيض والرمادي مسيطر على المشهد، تسقط المدائن جراء هذه الصراعات التي صارت عبثية في أتون إبرام التحالفات مع عدو المدينة، بهدف البقاء بالعرين جالسا بصرف النظر عن طبيعة الجلوس والدور المنوط بالجالس.