الأربعاء: 26/03/2025 بتوقيت القدس الشريف

هل خطاب الادارة الأمريكية متناقض حقاً؟!

نشر بتاريخ: 24/03/2025 ( آخر تحديث: 24/03/2025 الساعة: 09:58 )

الكاتب: د. أحمد رفيق عوض



منذ أن دخل دونالد ترامب البيت الأبيض وهو يتحفنا بتصريحاته العدائية حيناً والأقل عدوانية حيناً آخر والمتفهمة في أحيان أخرى، فمن التهجير الكامل وبناء الريفيرا إلى التنازل عن الفكرة ثم العودة إليها ثم تحسينها أو تسويقها أو فرضها أو بيعها للاحتلال الاسرائيلي الذي تلقفها وأسرع إلى تشكيل هيئة للطرد أسماها التهجير الطوعي ، وكأن هناك فرقاً بين الطوعي والاكراهي، ولكن لا بد من تلك اللفتات الإنسانية المثيرة للضحك التي يلجأ إليها المحتل عادة . فمن يسمع ترامب يتحدث عن غزة ودمارها ومعاناة سكانها وضرورة نقلهم إلى أماكن جميلة وآمنة يشعر أن الرجل يشبه بابا الفاتيكان، ولكن هذا "البابا" لا يستطيع ولا يجسر اطلاقاً ان يقول من هو المسبب لتلك المشاهد الكارثية.
هذا التناقض في تصريحات ترامب أو ما قد يفسر على أنه اضطراب أو تناقض انتقل أيضاً إلى تصريحات وزير الخارجية روبيو الذي ظهر في مقابلة تلفزيونية وهو يرسم صليباً على جبهته في اعلان صريح لتوجهاته التطهيرية والمتطرفة أيضاً في اعلان سافر وواضح عن انتقال العلمانية الأميركية إلى ليبرالية دينية متوحشة تريد مصادرة العالم أو "اصلاحه" أو ارتهانه لرؤية معينة، وظهر التناقض أيضاً في تصريحات آدم بولر الذي أزيح بقوة اللوبيات الخفية والعلنية بعد تصريحاته المثيرة والجديدة والصادمة، وظهر التناقض كذلك في تصريحات المتحدثة الصحفية الجميلة باسم البيت الأبيض في محاولاتها المستمرة للتفسير أو التبرير إلا في حالة دعم اسرائيل في حربها الثانية على قطاع غزة المدمر، وظهر التناقض أيضاً في تصريحات ستيف ويتكوف المبعوث الموثوق لدونالد ترامب ، فهل هناك تناقض حقاً في أقوال وتصريحات الادارة الأميركية؟!
برأيي فإن ما يبدو وكأنه تناقض للوهلة الأولى إنما هو انعكاس لجدل اللوبيات الصهيونية واليهودية من جهة وبين مطامع ورغبات ترامب من جهة أخرى ، بمعنى أن هذه اللوبيات ليست متفقة فيما بينها على خيارات نتانياهو واليمين الحاخامي التوراتي عموماً. إذ أن هناك أطراف كبيرة في هذه اللوبيات لا تدعم اسرائيل الحاخامية التوراتية وتعتقد أنها تؤدي بها إلى الدمار كما حدث ذلك في الماضي البعيد ، فيما توجد أطراف أخرى تريد اسرائيل علمانية وديمقراطية ومقبولة لدى الغرب الاستعماري . بمعنى آخر، فإن نتانياهو ليس هو العنوان الذي تلتقي عليه جميع المكونات في هذه اللوبيات، لهذا تجد اتفاقاً كاملاً حول دعم اسرائيل وأمنها واستقرارها وسيطرتها على الاقليم ولكن هذا الدعم لا يعني اعطاء نتانياهو كل ما يريد أو كل ما يطلب ، هذا من جهة، أما من جهة أخرى ، فإن مطامح ترامب ومطامعه أيضاً تتمثل في حل هذا الصراع جزئياً أو كلياً بأسرع ما يمكن من خلال البناء على "انجازه" الاول وهو السلام الابراهيمي ، ولا يمكن لهذا السلام ان يستمر أو يتواصل اذا بقي نتانياهو بهذه العدوانية وهذه التدميرية ، لا يمكن تسويق هذا السلام دون حل للقضية الفلسطينية أو على الأقل رسم ملامح فعلية وحقيقية لهذا الحل، لا يمكن للدول العربية المطبعة وغير المطبعة أن تقبل نصراً نهائياً اسرائيلياً في الاقليم وان تقبل الغاءً للدولة والشعب الفلسطيني ، أو على الأقل فإن هذه الدول مستعدة لقبول وتسويق وربما فرض تسوية على الفلسطينيين بدعم أمريكي وأوروبي لا تتضمن تهجيراً أو تجاوزاً للحقوق الفلسطينية، ويبدو أن ترامب يدرك هذا جيداً، هو يريد اسرائيل قوية، ولكن يعرف أن مصالح أميركا لا تحفظ فقط من قبل اسرائيل ، وأن ازمات أميركا لا تحلها اسرائيل فقط، بل على العكس فإن اسرائيل تستنزف المال والجهد وحتى القيم الأميركية وهذا ما أخذ الشارع الأمريكي يتحدث عنه علناً.
لهذا كان الحوار الأمريكي مع حركة حماس ، وتغير موقف الادارة الأمريكية من الخطة العربية بشكل ما والمطالبة بتطوير واصلاح السلطة الفلسطينية للمهام المستحدثة ، ولهذا أيضاً كانت تصريحات ستيف ويتكوف الأخيرة ، وهي تصريحات تفتح الأبواب كلها وتضع الخيارات كلها وتقول الشيء ونقيضه، لأن الادارة الامريكية تدرك أن حكومة نتانياهو بهذا التطرف وهذه العدوانية قد تدمر الرؤية النهائية للإدارة الأمريكية .
البيت الأبيض يريد لإسرائيل أن تنتصر بالتأكيد ولكنها تريد لترامب أن ينتصر أيضاً، البيت الأبيض يريد ان يخفض من سقوف المطالب للشعب الفلسطيني لتصبح مجرد البحث عن رغيف خبز، ويريد أن يسوق لسلام منقوص مع العالم العربي يقوم على التطبيع مقابل الحماية العسكرية، ولكنه أيضاً يريد أن يحقق مصالحه الاقتصادية والأمنية أيضاً. يريد البيت الأبيض أن يجعل من منطقتنا منطقة نفوذ كامل في مواجهة الأعداء الكبار، يريد أن يضمن أنظمته وشعوبه وممراته وثرواته وهدوءه. أيضاً، وحتى يضمن البيت الأبيض كل ذلك، لا بد له من التوصل إلى حل سريع ما للصراع في فلسطين، ترامب قد يخدم اسرائيل لألف سبب وسبب ولكنه في نهاية الأمر رئيس الولايات المتحدث الأمريكية وقد لا نفهم - نحن العرب والمسلمين- لماذا يتصرف رئيس إمبراطورية عظمى بهذه الطريقة مع اسرائيل ، ولكن ترامب بالتأكيد لديه التبريرات والذرائع الاستراتيجية والعقائدية التي تجعله منتخباً ومدعوماَ من أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة ليفعل ما يفعل. أخيراً، التناقض الظاهري في الخطاب الأمريكي هو خلافات في زوايا النظر وليس على المشهد، خلافات في المسالك وليس على الأهداف ، خلافات حول الأشخاص وليس على المواضيع.