الكاتب:
نادين روز علي
“على مدار ثلاثة أسابيع أو أكثر، أي منذ بدء الشهر الفضيل، حاولت أن أستشرف الواقع في الأراضي الفلسطينية. مرة كامرأة لديها التزامات ثقيلة على كاهلها، ومرة كمراقبةٍ تحاول أن تربط الأحداث وتخرج بنتائج مقنعة تتوافق مع واقعٍ بات يتغير ويفرض على الجميع التماهي مع عجلته .
لا أعتقد أن مرحلة تاريخية مرّت على الفلسطينيين بصعوبة وحساسية ودقة كما هي هذه المرحلة. حتى في عام 1948، رغم فداحة النكبة وصعوبتها وما حملته من مآسٍ للفلسطينيين، كانت خياراتهم حينها أكثر وضوحًا. كان هناك إجماع على أن العالم العربي لن يترك أرضهم محتلة، وجاءت القومية العربية بقيادة عبد الناصر لتفتح أمامهم آمال العودة إلى أرضهم المحتلة، وظل الأمل يحدوهم حتى جاءت نكسة حزيران عام 1967، والتي شكلت مرحلة جديدة في تاريخهم.
ورغم النكسة، بقيت الخيارات واضحة: اقتنع الفلسطينيون جميعًا بأن الحل يكمن في المقاومة المسلحة، وأن التحرير لن يأتي إلا عبر البندقية. وحتى في زمن السلام والانقسام بعد اتفاق أوسلو، كانت الخيارات واضحة للطرفين، سواءً لمن آمن بالمقاومة أو لمن آمن بالمساومة.
أما بعد السابع من أكتوبر 2023، فقد أصبحت الخيارات أصعب لأنها غير واضحة ومعقدة. من يريد الذهاب نحو التسوية، يواجه انسداد الأفق في ظل حكومة اليمين القومي المتطرف في إسرائيل. ومن يريد الذهاب نحو المقاومة، لم تعد هناك حاضنة شعبية على الأرض، ليس لأن الفلسطيني تغيّر، بل لأنه يُباد، هو وأسرته ومنزله وبيئته. لم يتبقَّ من الحاضنة الشعبية سوى الأشلاء والأنقاض.
فما هي الخيارات اليوم أمام الفلسطيني؟ في السابق، كان البعض يستهزئ بكلمة “الصمود”، لكن اليوم لم يبقَ أمام الفلسطيني سوى الصمود.
الصمود يعني البقاء، والثبات فوق الأرض، وعدم مغادرتها. ويتطلب أولًا: تعزيز صمود الإنسان الفلسطيني من خلال تقديم الدعم له، ليجد لقمة عيش تقيه. ثانيًا: إعادة بناء القضية الفلسطينية عبر تفعيل الدور الدبلوماسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وهو دور يحتاج إلى إعادة هيكلة وتحديث. قد يستهين البعض بهذا الدور في مواجهة حكومة إسرائيل، لكن إعادة بناء موقف دولي داعم للفلسطينيين هو أكثر ما يزعج حكومة نتنياهو، خاصة في ظل خسارتها المتزايدة للدعم العالمي التقليدي. ثالثًا: الصمود الاقتصادي. فالبقاء متجذرًا على الأرض يتطلب واقعًا اقتصاديًا قابلًا للحياة. ويجب البدء ببناء اقتصاد فلسطيني ثابت وقادر على الاستمرار، وتعزيز هذا الاقتصاد يتطلب مرحلة من الاستقرار، على الفلسطيني أن يفرضها — حتى على الاحتلال. قد تبدو هذه الفكرة غريبة، لكنها حقيقة يفرضها الواقع.
لقد تحولت المعركة مع إسرائيل إلى معركة بقاء، وبما أن إسرائيل تمتلك اقتصادًا متقدمًا ومفتوحًا، فهي قادرة على هزيمة الفلسطيني في هذه الساحة. لكن إذا تمكن الفلسطيني من فرض خياراته الاقتصادية، وصناعة نموذج اقتصادي متقدم قادر على الإنتاج، فسيكون كذلك قادرًا على المواجهة.
العقبات كثيرة، لكن الفلسطيني، ومع غياب خياري المقاومة أو المساومة، لم يعد أمامه سوى خيار واحد: الصمود. والصمود اليوم يعني بناء اقتصاد حقيقي قادر على تعزيز هذا الصمود.