الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
كثير من الخبراء والعسكريين والأكاديميين الاسرائيليين الذي يدعون أنهم الأقدر في فهم ما يسمونه الشرق الأوسط ، وأنهم الأنجع في التعامل معه ومع ظواهره ، يعتقدون أن هذه المنطقة بكل ما فيها من فسيفساء عرقية وطائفية منطقة هشّة دائمة التغير وكثيرة الصراعات تخلو من الشرعيات والثوابت وتعبد القوة بكل صورها وتجلياتها ، ويعتقدون أن شعوب هذه المنطقة وطوائفها طارئون ولم يطوروا يوماً دولاً راسخة أو أنظمة مستقرة، حتى الدول التي نشأت هنا كانت دولاً اقطاعية عشائرية تقوم على العصبية أكثر مما تقوم على القومية أو الوطنية.
المشكلة في هذا أن المؤسسة العسكرية والأمنية الاسرائيلية تتعامل معنا بهذه العقلية الاستعمارية والاستشراقية . بمعنى أنها تتعامل معنا ومع شعوب دول المنطقة من منطلق أننا لسنا شعوباً ناضجة ولسنا دولاً حقيقة أيضاً.
فالمؤسسة الأمنية العسكرية الإسرائيلية الحاكمة في إسرائيل وصاحبة القرار حتى الآن على الأقل تعتقد أن من الممكن التوصل إلى أمن دائم ولا أقول سلاماً دائماً من خلال اجراءات القوة بكل أشكالها بدءاً من احتلال الأرض وطرد أهلها أو التنكيل بهم أو حرمانهم من ثرواتهم وسلبهم حقوقهم والتحكم في حياتهم والسيطرة على نشاطهم والحد من قدرتهم على المواجهة ومنعهم من ممارسة الحقوق الأساسية ودفعهم إلى الإحساس بأنهم داخل سجن كبير غير مسموح لهم بالكثير من الامتيازات التي يمتلكها كل مواطن يعيش على أرضه بكامل حريته، ولهذا عمدت المؤسسة الأمنية العسكرية وعلى مدة 56 سنة إلى تقييد الحريات والحركة والعمل والسفر والبناء والتعليم والتطور الحضري والسكاني، وذلك من خلال منظومة قانونية تمييزية وتمدد الاستيطان وتغيير شبكة الطرق ومصادرة الأرض لاعتبارات شتى وطرد المواطنين ومنعهم من البناء ودفعهم إلى مربعات سكانية تضيق وتضيق كلما تقدم فيها الزمن.
ولكن المؤسسة الأمنية العسكرية الاسرائيلية لم تكتف بإجراءات القوة والإخضاع هذه رغم أنها باهظة وقاسية ونجحت في بعض أهدافها المتمثلة في افقار المواطنين والحاقهم بالاقتصاد الاسرائيلي وتفكيك البنى الاجتماعية بمدى معين وكذلك دفعهم إلى الهجرة أو ترك مقاعد الدراسة أو الانغماس في عالم الجريمة ، المؤسسة الأمنية العسكرية لم تكتف كما قلت بإجراءات القوة هذه، بل عمدت إلى استخدام أداة أخرى للسيطرة والإخضاع وذلك من خلال المقترحات السياسية ومشاريع التسوية ووضع البدائل وطرح الخيارات السياسية المتعددة، وعلى مدى 56 سنة، فقد عمد المحتل الى تجاوز خيارات الشعب الفلسطيني ورموزه وممثله السياسي، حاول المحتل طيلة الوقت أن يصنع قيادات بديلة وخططاً أخرى وأجساماً وهمية وحاول أن يخلق حلولاً لا رجلين لها ولا يدين وأن يصطنع قبضايات من مختلف المناطق والألوان والأهواء .
ويبدو أن ذلك لم ينجح لأسباب يطول شرحها لا يحتملها مقال صحفي مثل هذا، لهذا عمدت المؤسسة الأمنية العسكرية إلى حلول أخرى جديدة مثل التفكيك والتشكيك والتفريق وعمليات الإغراء والإغواء وخطط التمويل والإيهام بالتمثيل . عمدت المؤسسة العسكرية الأمنية الاسرائيلية إلى استخدام القوة وفائضها من جهة وإلى استخدام الوسائل الناعمة وخداعها ، من منطلق أن شعوب المنطقة واهمة ومتوهمة وطائشة وعاطفية وتصدق كل شيء بقليل من الإغراء والإغواء.
اسرائيل لم تتخل يوماً عن محاولة ترسيخ أمنها ولا أقول سلامها عن طريق العصا الغليظة التي تعمل دون التفات إلى التسويات، وعن طريق سياسات ناعمة تعمل دون التفات إلى العصا الغليظة. تبدو اسرائيل في ذلك غير مفهومة أو كأنها مجنونة أو أنها بدون كوابح قانونية أو ضوابط انسانية على الاطلاق. ما المشكلة في هذا كله؟! المشكلة أن اسرائيل لم تحصل على الأمن حتى هذه اللحظة، ولم تحصل على السلام أيضاً، فقد ظلت في حروب دائمة تكلفها الكثير مادياً وبشرياً وظلت في اضطراب دائم وجدل هائل، وبالقدر الذي تغيرنا فيه نحن، فإن المجتمع الاسرائيلي تغير هو الآخر بوتيرة أكبر، فإسرائيل تفقد حيويتها ومؤسساتها الضامنة وعواملها الذاتية القوية وتنحدر إلى هوة التطرف والعنصرية ونذر الحرب الأهلية ، وتفقد الألق والسمعة والاحترام، في الوقت الذي تزداد فيه المخاطر والتحديات القريبة والبعيدة.
المشكلة في نظرية الأمن الاسرائيلي المتوهم أن إسرائيل لا تريد أن ترى أنها تحتل وتصادر شعباً آخر ورغم ذلك تطالب المنطقة ليس بالاعتراف بذلك فقط وإنما المشاركة في تحمل تبعاته، هذا احتلال لم يكن من قبل، وهذا صحيح أيضاً فالإسرائيلي المحتل لا يعتقد أنه يمارس احتلالاً بشعاً بل يرى أنه يعود إلى بيته الذي هجره من آلاف السنين وبالتالي فإنه يقوم بترميمه من جديد. وعمليات الترميم فيها بعض الخسائر . هذه هي مشكلة الأمن الإسرائيلي : أوهام كثيرة وجهود خارقة لإثبات صحتها وهو ما لا يستقيم أبداً.