الثلاثاء: 15/04/2025 بتوقيت القدس الشريف

السياسات التربوية في فلسطين: من اختناقات الواقع إلى آفاق التجديد والتحول

نشر بتاريخ: 14/04/2025 ( آخر تحديث: 14/04/2025 الساعة: 12:07 )

الكاتب: ثروت زيد الكيلاني

في زحام الخرائط الممزقة، وفي ظل احتلالٍ يُمعن في تمزيق الجغرافيا وسلب الذاكرة، تبقى المدرسة الفلسطينية من آخر ما تبقى لنا من ملامح السيادة الممكنة، ومنابر المعنى المتبقي. هي ليست مجرد جدران، ولا حصصاً دراسية مجدولة، بل هي، في جوهرها، ساحة الصراع الكبرى بين مشروعين: مشروع الهيمنة والنسيان، ومشروع التحرر والتكوين. إنها الموضع الذي يتقاطع فيه الطفل مع وطنه، والمعرفة مع الكرامة، والمستقبل مع جراح الحاضر.

لكن هذه المدرسة، بما تحمله من طاقة كامنة، تقف اليوم على مفترق تاريخي، بين أن تتحول إلى أداة لإعادة إنتاج الإخفاق والاغتراب، أو أن تنبعث كمختبر للحرية وورشة لإعادة تخيّل فلسطين. من هنا، فإن السياسات التربوية ليست مجرد تنظيم إداري أو خطط قطاعية، بل هي مرآة لوعينا الجمعي، وبوصلة لوجهتنا الحضارية. والسؤال الذي يجب أن يؤرقنا: هل لا تزال سياساتنا التربوية تجرؤ على الحلم، أم أنها استسلمت لإدارة الممكن بأدوات الماضي؟

أولاً: السياسات التربوية بين واقع مأزوم وممكنات مهدورة

تشير مخرجات السياسات التربوية في فلسطين إلى حالة من الجمود التنظيمي والإداري، حيث تتكرر الأزمات من دون القدرة على بلورة معالجات جذرية. فغياب المساءلة الفعلية، وضعف الرؤية الشمولية، وارتباط الخطط بمعايير التمويل الخارجي لا بالاحتياجات الوطنية، أدى إلى تحوّل السياسات إلى ردود أفعال آنية لا تحمل مشروعاً تحويلياً حقيقياً، وفي كثير من الأحيان، تُبنى السياسات على حساب الفعل التربوي النوعي، مما يُنتج نظاماً متخماً بالإجراءات، فارغاً من المعنى.

لكن الأزمة ليست قدَراً، ولا ينبغي أن تُختزل في حدود ما هو قائم. هناك ممكنات كبيرة لم تُستثمر بعد، تتعلق بتفعيل دور المعلمين كمشاركين في صناعة السياسات، وتعزيز الحوكمة الرشيدة، وربط التخطيط التربوي برؤية تحررية تُعبّر عن السياق الفلسطيني. المطلوب اليوم ليس ترميم السياسات القائمة، بل إعادة تأسيسها على رؤية تربوية مقاومة، قادرة على مواجهة السياق الاستعماري والتقني في آنٍ واحد.

ثانياً: التعليم كحق سيادي وليس خدمة مُجتزأة

لطالما تم التعامل مع التعليم في فلسطين بوصفه خدمة مجتمعية أو ضرورة تنموية، ولكن هذا المنظور يقلل من قيمته السيادية. ففي الحالة الفلسطينية، التعليم ليس مجرد أداة للنهوض الاقتصادي، بل هو فعل تحرري وسياسي بامتياز، يُعيد إنتاج الذات الجمعية ويحصّن الهوية الوطنية. إن النظر إلى التعليم كحق سيادي يُوجب تجاوز العلاقات الزبائنية في رسم السياسات، والانطلاق نحو مقاربات ترتكز على الحقوق، لا على المنح والمساعدات.

وعليه، فإن تمكين التعليم في فلسطين يبدأ من الاعتراف به كأداة لمقاومة الهيمنة، ومجال لبناء الدولة الممكنة في ظل اللادولة. فبدلاً من التركيز على الامتثال لمؤشرات دولية مجتزأة، ينبغي تطوير سياسات تعليمية تنبع من وجدان الشعب الفلسطيني، وتراكم نضالاته، وتُعيد الاعتبار لمفاهيم الحرية، والعدالة، والكرامة التعليمية.

ثالثاً: غياب التجديد البنيوي وتحدي التحول التربوي

رغم الحديث المتكرر عن "تطوير التعليم"، إلا أن غالبية المحاولات بقيت محصورة في مستوى الأدوات والمناهج، دون المساس بالبنى العميقة للنظام التربوي. فما يزال التعليم في فلسطين يُدار بمنطق بيروقراطي، يفتقر إلى فلسفة تربوية متجددة، ويُعيد إنتاج أنماط التعليم التلقيني والنمطي. وهذا ما يجعل التحول التربوي الحقيقي مستحيلاً، في ظل بقاء البنية الفكرية والهيكلية على حالها.

إن الحاجة الملحة اليوم هي تحرير التخيل التربوي من قبضة التقارير والمؤشرات، والانطلاق نحو تفكير جذري يُعيد بناء العلاقة بين التعليم والواقع الفلسطيني. فكل تحول تربوي أصيل ينبغي أن يبدأ بإعادة التفكير في غايات التعليم، وفي سؤال "أي مواطن نريد؟ وأي وطن نحلم به؟"، لا بمجرد إصلاحات إدارية سطحية.

رابعاً: دور المعلم من وظيفة راكدة إلى رسالة تحويلية

لطالما تم التعامل مع المعلم كمجرد مُنفّذ للسياسات، أو كحلقة في سلسلة بيروقراطية لا تملك قرارها. هذا التصور أضعف من روح التعليم، وحوّل المهنة إلى وظيفة راكدة. في حين أن المعلم الفلسطيني هو حامل رسالة لا موظف ساعات، وهو، في سياقه التاريخي، أحد أعمدة الصمود الثقافي والمعرفي، وصانع الوعي الجمعي في وجه التشويه الاستعماري.

لذا فإن أي سياسة تربوية تحررية يجب أن تعيد الاعتبار للمعلم كمثقف عضوي، وتفتح له المجال للمشاركة في بلورة المناهج والسياسات، وتحقيق العدالة المهنية. لا يمكن الحديث عن تجديد تربوي في ظل تهميش صوت المعلم، وتجاهل كرامته المادية والمعنوية، وتقييده بأساليب تقويمية متقادمة تنزع عنه القدرة على الإبداع والمبادرة.

خامساً: التعليم في مواجهة الطوارئ والاحتلال

ليست الطوارئ في فلسطين طارئة، بل هي الحالة المستدامة التي تعمل تحتها المدارس: اقتحامات، واعتقالات، وهدم، وتهجير، وحصار. ورغم ذلك، لم تنجح السياسات التربوية في تأطير استراتيجية شاملة للتعليم في الطوارئ، تُحصّن المدرسة كموقع مقاومة لا كضحية للمشهد السياسي. ظلت الاستجابات جزئية وموسمية، تفتقر إلى البنية المؤسسية والتخطيط بعيد المدى.

إن تحصين التعليم في مواجهة الطوارئ لا يتحقق بالبيانات والنداءات، بل ببناء منظومة سياسات تعترف بخطورة السياق، وتستثمر في المرونة التربوية، وتدعم المدارس الواقعة في الخطوط الأمامية، وتدمج البعد النفسي-الاجتماعي في قلب الفعل التربوي. فالتعليم المقاوم لا يحتاج فقط إلى مناهج وطنية، بل إلى بيئة تربوية قادرة على الصمود والإبداع رغم الألم.

ختاماً، وفي إطار السعي نحو تجديد تربوي يُطلق العنان للخيال ويشكل معالم المستقبل، يتعين علينا أن ندرك أن المستقبل ليس مجرد امتداد طبيعي لما هو موجود، بل هو مشروع يُصنع بإرادة تربوية واعية. لقد آن الأوان لتجاوز الخطابات التقليدية، والانطلاق نحو تجديد تربوي شامل يُعيد بناء الفلسفة التعليمية برمتها. وهذا لا يتم عبر نسخ التجارب العالمية، بل من خلال استنبات نموذج فلسطيني أصيل، ينطلق من تجربة التحرر، ويحتضن التنوع، ويؤمن بأن التعليم هو الفضاء الأول لصناعة الإنسان الفلسطيني الحر.

فليكن التجديد التربوي في فلسطين ثورة ناعمة تستلهم من إرث النكبة والصمود، وتحلم بوطنٍ لا يُختزل في خارطة، بل يُبنى في كل حصة، وفي كل دفتر، وفي كل طموح لطفل يرى في المدرسة أكثر من مقعد، بل يرى فيها الوطن الممكن.