الكاتب: دوسلدورف / أحمد سليمان العمري
استقبال المجر لنتنياهو هو قتل للعدالة، ويُنظر إليه على أنّه جريمة بمراسم دبلوماسية.
في سابقة هي الأولى من نوعها منذ تأسيس المحكمة الجنائية الدولية، تستقبل المجر 3 أبريل 2025 رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، المطلوب دوليا بتهمة جرائم حرب، والصادر بحقّه مُذكّرة اعتقال.
المشهد في مطار «بودابست» لم يكون مجرّد خرق بروتوكولي، بل انتهاكا صارخا لنظام روما الأساسي، مما يطرح تساؤلات مصيرية عن مصير العدالة الدولية في ظل هيمنة المعايير المزدوجة، وما يزيد من تعقيد الصورة هو إعلان المجر عن انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية تزامنا مع زيارة نتنياهو، في خطوة تتناقض مع الالتزامات القانونية التي تفرضها عليها المعاهدات الدولية.
المجر بين الانحياز السياسي والمسؤولية القانونية
خرقٌ قانوني مُتعمَّد: بموجب المادة 86 من نظام روما، يتوجّب على الدول الأعضاء «التعاون الكامل» مع المحكمة، ولكن المجر، بإعلانها الانسحاب من المحكمة تزامنا مع استقبال نتنياهو، تختار مسارا يفضح ازدواجية المعايير، واللافت أن بودابست رفضت سابقا استضافة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انصياعا لنظام روما الأساسي وخوفا من الملاحقة القانونية، ما يثير تساؤلات حول المفارقة الأخلاقية التي تهيمن على سياسة المجر.
هذا التناقض العميق بين الموقف تجاه بوتين ونتنياهو يثير الكثير من الانتقادات، الأمر الذي دعا الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش» لوصف هذه الظاهرة بأنها «تحويل القانون إلى أداة انتقائية تخدم مصالح القوى العظمى».
الضغوط السياسية الخلفية
تشير وثائق مُسرّبة من الخارجية المجرية (حسب تقرير «بوليتيكو أوروبا» في مارس 2025) إلى ضغوط أمريكية - إسرائيلية كبيرة لتمويه مذكّرة الاعتقال الدولية بحق نتنياهو.
هذه الضغوط قد تكون السبب الرئيسي وراء الخطوات المجرية، التي تهدف إلى تأمين مصالحها السياسية والاقتصادية مع إسرائيل والولايات المتحدة. في الوقت نفسه يُشكّل الإنسحاب من المحكمة الجنائية تهديدا خطيرا لشرعية المحكمة نفسها، ما يفتح الباب لعقبات جديدة حول إمكانية تنفيذ القرارات الدولية بشكل فعّال.
صمتٌ أوروبي وصخبٌ عربي
الاتحاد الأوروبي: اختبارٌ للوحدة القانونية، رغم أن المادة 21 من معاهدة الاتحاد الأوروبي تُلزم الدول الأعضاء بـ «احترام سيادة القانون»، فإن انقسامات داخل المجلس الأوروبي تعيق اتخاذ إجراءات عقابية ضد المجر.
وبحسب مصادر دبلوماسية من «يورونيوز»، هناك انقسام حاد بين الدول الأعضاء حول كيفية التعامل مع الموقف، في حين أعلنت إسبانيا وبلجيكا رفضهما للتطبيع مع هذا التصرّف، نجد أن ألمانيا - عبر زعيم الحزب المسيحي الديمقراطي «فريدريش ميرتس»، الذي سيُنتخب في 6 أيار/مايو القادم مستشارا بعد توقيع الإئتلاف الجديد - أشارت إلى أنه «سيجد وسائل وطرق لضمان زيارة نتنياهو في برلين ومغادرته دون أن يتعرّض للاعتقال»، مما قد يؤدّي إلى فتح الباب أمام أزمة شرعية أوسع، أولها وضع ألمانيا في مرمى الانتقادات الدولية.
المواقف الدولية
الولايات المتحدة: دعمت واشنطن علنا «حق المجر في تقرير سياستها الداخلية»، في إشارة إلى رفضها المستمر للمحكمة الجنائية الدولية. هذا الموقف يعكس موقفا طويل الأمد للولايات المتحدة من المحكمة التي غالبا ما اتُهمت بأنها مسيّسة وتستهدف الدول الكبرى، تزامنا مع الموقف العربي والإسلامي الغائب.
المجتمع المدني: أطلقت منظمات حقوقية حملات واسعة عبر الإنترنت، مثل حملة «انعدام العدالة»، التي تدعو لمقاطعة الشركات المجرية المتورّطة في التعاون العسكري مع إسرائيل.
هذه الحملة تأخذ طابعا دوليا، ما يعكس اتساع دائرة الغضب ضد موقف المجر من العدالة الدولية.
النظام الدولي بين الانهيار القائم والإصلاح المزعوم
اختبار وجودي للمحكمة الجنائية: تُظهر إحصائيات المحكمة لعام 2024 أن حوالي 60% من القضايا التي تعاملت معها المحكمة الجنائية الدولية لم تُسفر عن إدانات، ما يعزّز من شعور العديد من المراقبين بعدم فعالية هذه المؤسسة في محاسبة كبار المسؤولين عن الجرائم الدولية.
مع انسحاب المجر من المحكمة، قد تشهد الفترة القادمة تصاعدا في الدعوات لإصلاح نظام روما، خاصّة فيما يتعلق بكيفية تنفيذ القرارات الدولية وضمان التزام الدول بها. أيضا، قد تؤدي هذه الخطوة إلى المزيد من الانسحابات من المحكمة، كما حذّر تقرير «المجموعة الدولية للأزمات» من تهديد مستقبل المحكمة كأداة رئيسية للعدالة الدولية.
مستقبل المساءلة الدولية: استقبال المجر لنتنياهو قد يُسرّع من التحول الجيوسياسي نحو «نظام عدالة مواز»، حيث تصبح تحالفات سياسية هي من يحدد قواعد اللعبة بدلا من احترام المبادئ القانونية الدولية.
المقارنة مع اعتقال البشير
في مقارنة تاريخية مع موقف المجر تجاه نتنياهو، استحضر اعتقال الرئيس السوداني السابق عمر البشير في 2019، والذي قابله ردود فعل دولية متنوعة؛ فقد كانت هناك ترحيبات من قبل المنظمات الحقوقية وكثير الحكومات الغربية التي اعتبرت الاعتقال خطوة نحو تحقيق العدالة.
ما يميّز حالة البشير عن نتنياهو هو التفاعل الدولي مع الموقفين، فحين اعتُبر اعتقال البشير خطوة مهمة على طريق العدالة الدولية، فإن استضافة نتنياهو في المجر تمثّل تحديا خطيرا للعدالة الدولية، ويُظهر كيف يمكن لبعض الدول أن تُطبّق القانون بشكل انتقائي بناء على تحالفاتها السياسية، مما يهدد نزاهة النظام القضائي الدولي.
العدالة أم الفوضى؟
المشهد في بودابست يُعد علامة انهيار متسارع لشرعية النظام الدولي، كما قال الرئيس السابق للمحكمة الدستورية، الألماني «أندرياس فوسكوله»: «عندما تتحول الذرائع القانونية إلى أدوات سياسية، يصبح القانون مجرّد خرقة تُمسح بها أقدام الأقوياء». السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل سيكون انسحاب المجر بمثابة جرس إنذار لإصلاح النظام الدولي؟ أم بداية لعهد جديد من الفوضى القائمة على تطبيق انتقائي للقانون الدولي؟ يشبه قانون الغاب.