الكاتب: ثروت زيد الكيلاني
يرتفع صوت الشهداء في نيسان، شهر الوفاء، متجاوزاً جراحات الزمن الفلسطيني ومذكّراً بأن الأرض لا تثمر حرية إلا بالتشبث الصلب بالحق والهوية. في ذكرى القادة العظام أمثال خليل الوزير “أبو جهاد”، تتجدد المعاني الكبرى للعلاقة العضوية بين الإنسان وأرضه، بين التاريخ ومسار التحرر، بين الجرح المفتوح والإصرار على السيادة الوطنية. في ظل المجازر اليومية في غزة، والتوسع الاستيطاني في القدس والضفة، وسط تواطؤ دولي ودعم أمريكي فج، تزداد رسالة الشهداء وضوحاً: الحقوق الوطنية الفلسطينية ثابتة، غير قابلة للتصرف أو المساومة، ومعركة الحرية ماضية رغم القتل والحصار.
أولاً: الاغتيال السياسي كاستراتيجية لفصل الإنسان عن أرضه
مارس الاحتلال سياسة الاغتيال السياسي باكراً، مدركاً أن ضرب القيادة الوطنية هو محاولة لعزل الفلسطيني عن مشروعه التحرري وارتباطه التاريخي بأرضه. لم يكن استهداف خليل الوزير خارج الوطن فعلاً عشوائياً، بل ترجمة واعية لفلسفة استعمارية تسعى إلى اجتثاث جذور الفكرة الفلسطينية أينما أينعت. لقد أراد الاحتلال أن يفكك العلاقة بين الإنسان والأرض عبر اغتيال الرموز، متوهماً أن غياب الأجساد يسقط المشاريع الكبرى.
أثبتت التجربة الفلسطينية أن الاغتيال الجسدي لا يلغي الوجود الرمزي ولا يقتل الأحلام الوطنية. بقيت أفكار أبو جهاد تتجسد في كل مقاومة صامدة، في كل مشروع تحرري ينبت رغم الركام والحصار، مؤكدة أن الإرادة الجمعية أقوى من محاولات الإلغاء والإخضاع. من غزة إلى جنين، ومن القدس إلى مخيمات الشتات، يستمر الفلسطيني في إعادة إنتاج ذاته كمشروع تحرر دائم، رغم كل محاولات الإبادة السياسية والأمنية.
تكشف سياسات الاغتيال عن عجز الاحتلال أمام قوة الفكرة الفلسطينية، وعن مأزق مشروع استيطاني لم يستطع رغم تفوقه العسكري أن ينتصر على إرادة التحرر المتجذرة. لقد أثبت التاريخ أن محاولات إسكات القادة كانت بذوراً جديدة لانتفاضات قادمة، وأن دماء القادة لم تكن نهاية الحكاية، بل بداية جديدة لطريق لا يعرف الانحناء.
ثانياً: المجازر الجارية وتجسيد نظام الإبادة والفصل العنصري
تتصاعد آلة القتل الإسرائيلي منذ تشرين الأول 2023 في غزة، وتطال بأنيابها الحجر والبشر، إذ استشهد أكثر من 52000 إنسان، نصفهم من الأطفال والنساء، وسط دمار شامل وانهيار إنساني. لا تقف المجازر عند حدود الجغرافيا، بل تتعداها إلى سياسة مدروسة تهدف إلى تفريغ الأرض من أصحابها وفرض وقائع ديموغرافية جديدة بالقوة العارية. تحت رعاية أمريكية بريطانية مكشوفة، يتحول الاحتلال إلى نظام إبادة جماعية متكامل الأركان، وإلى ممارسة أبشع صيغ الأبرتهايد.
تكشف الجرائم اليومية أن الاحتلال لا يسعى فقط إلى السيطرة، بل إلى سحق أي إمكانية لحياة فلسطينية مستقلة، عبر أدوات التجويع، والحصار، والتدمير الاقتصادي، والثقافي. فالجرائم ترتكب بسبق الإصرار، والمجازر لم تعد “حوادث” معزولة، بل جزء من بنية استراتيجية تهدف إلى تصفية الحلم الوطني برمته. إن المجازر ليست إلا تتويجاً لمسار طويل من محاولات محو الوجود الفلسطيني مادياً ومعنوياً.
أمام هذه الوحشية، يؤكد الفلسطينيون مجدداً أن صمودهم ليس رد فعل، بل فعل إرادي يختزن إرث مقاومةٍ طويلة لا تنكسر. يتحول الحصار إلى تحدٍ للإبداع، والمجزرة إلى حافز إضافي لتجذر الإنسان الفلسطيني في أرضه، مثبتاً أن معركة الوجود أعمق من أي محاولة لاجتثاثها أو محوها بالقوة الغاشمة.
ثالثاً: الحقوق الوطنية الثابتة وتجديد المشروع التحرري
ينتصب الحق الوطني الفلسطيني كجبل لا تهزه رياح المجازر ولا مشاريع التسوية المضللة، إذ يدرك الفلسطيني أن حقوقه التاريخية - حق العودة، وحق تقرير المصير، وحق إقامة دولته الحرة - ليست بنوداً تفاوضية، بل أسس وجوده وهويته. يدرك الاحتلال ومن خلفه القوى الدولية أن أي حل لا يرتكز على هذه الحقوق سيتحول إلى بذرة صراع قادم لا محالة.
تجدد المذابح والحصار في غزة والضفة يجسد ضرورة ملحة لإعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني على أسس التحرير الحقيقي، بعيدًا عن أوهام "السلام الاقتصادي" ومشاريع التسوية المسمومة. وتحتاج الساحة الفلسطينية إلى وحدة برنامجية صلبة، تنطلق من فهم عميق لمعنى التحرر الوطني، قوامها تحصين المجتمع اقتصاديًا، واستعادة زمام المبادرة السياسية، وتجذير الوعي التحرري في مواجهة مخططات الإذعان والإلحاق.
يتقدم الشهداء في ذاكرتنا اليوم، ليذكرونا أن فلسطين لا تُستعاد إلا بالثبات والعمل والتضحية الذكية، وأن الحقوق الوطنية لا تهترئ تحت آلة الحرب، بل تتجدد بإرادة الشعوب. في حضرة أرواحهم، نستعيد الوعد: فلسطين أرض الحرية، شعبها جدير بالنصر، وقضيته أبقى من كل آلة بطش، وأسمى من كل مشروع استعماري.
ختاماً، تعود ذكرى الشهداء في نيسان لتؤكد أن قضية فلسطين ليست نزاعاً عابراً، بل معركة وجود وكرامة. بين الركام في غزة، وبين قبور الأجداد في القدس، وبين صمود القرى في الضفة، يتجسد العهد الذي قطعه الشهداء: أن فلسطين حاضرة في كل قلب وضمير، وأن لا قوة مهما بطشت قادرة على شطب حق مغروس في تراب الوطن. ومع كل ارتقاء، ومع كل صرخة أم ثكلى، يعيد الفلسطينيون تأكيد هويتهم الوطنية ويجدّدون عهدهم مع أرضهم: فلسطين لكل أبنائها، حرّة مستقلة، رغم كل محاولات الإبادة والتهويد.