الثلاثاء: 22/04/2025 بتوقيت القدس الشريف

في يوم 17 نيسان كنت في تل ابيب

نشر بتاريخ: 22/04/2025 ( آخر تحديث: 22/04/2025 الساعة: 08:52 )

الكاتب:

عيسى قراقع

في 17 نيسان، يوم الأسير الفلسطيني كنت في تل ابيب، وصلت المدينة بكامل عقلي وجسدي ودمي واشلائي، جئت لأشارك في فعاليات أهالي الاسرى الإسرائيليين المطالبين بإطلاق سراح أبنائهم ووقف الحرب الإبادية على قطاع غزة، ويبدو ان دمي وصل الى ساحاتهم أخيرا، حملت اليافطات والصور ومشيت في المدينة أصرخ ثم أصرخ معهم وفيهم حتى سمعوني ورأوني، كيف رأوني؟ سجانا ام سجينا، قاتلا ام مقتولا، وجودي في وسطهم أشعرهم لأول مرة ان الضحية تستطيع ان تقيد يد الجلادين، وان السجن هو الاستعمار الذي يجمع السجان والسجين في مكان واحد، سألوني من اين انت؟ قلت لهم: انا من رام الله السجينة، ومن غزة الشهيدة.

كنت في تل أبيب، شاركت في المظاهرات اليومية التي لم تنقطع يوما منذ ما يقارب عامين من اجل الافراج عن الاسرى الإسرائيليين، وهناك حملت جثتي وسنين عمري المهدورة، وأسماء اكثر من عشرة الاف اسير فلسطيني يقبعون في السجون والمعسكرات الإسرائيلية، وهناك قلت لهم: انظروا بعينين اثنتين لا بعين واحدة، اخلعوا القناع وافتحوا الأبواب الحديدية لتروني بوضوح، وتروا المعذبين والمعدومين والمهانين والمغتصبين والمدفونين في مقابر حجرية، انظروا الي لتروا أنفسكم، فمنكم القاتل والمحقق والجلاد، ومنكم الصرخة والضربة، منكم السيف ومنكم النصر والهزيمة، استنهضتكم ضحاياكم كما استنهضتنا ضحايانا، القصف في داخلكم كما هو في داخلنا، ومعا نموت ومعا نحيا، ومعا نسير في هذه المظاهرة، ومعا نكتب العرائض والرسائل الى الأمم المتحدة، وتنقلب الان المعادلة، والكل يسأل: من يفك قيد الاخر ليتحرر منه ويعود الى البيت حرا، الأقوياء بحاجة الى الضعفاء، والمنتصرون مهزومون من الداخل، الحروب تجمع الحي والميت في الدنيا والاخرة.

كنت في تل ابيب في 17 نيسان، ولما شاهدوني ارتبكوا، اعتقدوا ان كل فلسطيني هو قنبلة موقوتة، انها عقيدة، الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، انا الطيف الذي تسلل من السجن ومن غزة ووصل تل ابيب، وهناك لم افهم سر البكاء والخوف وكل هذا الهلع، يريدون هدنة لإبرام صفقة وبعدها لتذهب غزة الى الجحيم، يريدون العدالة ويريدون المجزرة معا، يريدون يوما للغفران ويوما للذبح والخطيئة، ما هذه الدولة التي تريد الحرب والسلام داخل دبابة تجتاح رفح؟ تريد الحرية من خلال اعتقال الاخرين ونزع صفتهم الإنسانية كبشر.

كنت في تل ابيب، التقيت أهالي الاسرى الإسرائيليين والمحتجين على استمرار الحرب، قلت لهم جثتي المذبوحة هي صورة لجثثكم المذبوحة، وكلما نظرتم في حقل اشلائي وجدتم اشلائكم متناثرة، صورتي كأسير قضى أربعون عاما في السجن وخرج بلا ملامح آدمية هي صورة دولتكم الاسيرة التي هشمت كل القيم الإنسانية، دولة معسكرات وسجون ومخابرات وحواجز وقيود، يحدها سجن النقب جنوبا وسجن شطة شمالا، ولما انتبهتم وجدتم عقولكم سجينة، تصرفاتكم آلية، مقيدين بأغلال هذا الاستعمار وجزءا من ترسانته الفولاذية.

الاستعمار الصهيوني بنى جدارا عازلا في الوعي الإسرائيلي، لا يرى هذا الوعي الاخرين ولا التاريخ ولا الذاكرة ولا المستقبل ولا الانسان، انه الوعي المتوحش الذي يفترس وينقض ويرتكب المذابح والمجازر، وينحدر أخلاقيا وقانونيا نحو الهاوية، هل بدأ هذا الجدار يتشقق؟ وشهوة التدمير تحولت الى تدمير الذات المنهكة في الحروب الطارئة والدائمة؟ وكان عليهم ان يفهموا ان من ينظر الى الهاوية، فالهاوية تنظر اليه أيضا.

في 17 نيسان، كنت في تل ابيب، وهناك في هذه الدولة النووية المحصنة تستمر متلازمة الموت والحرية، لا ينام القاتل ولا ينام المقتول، لا ينام السجان ولا ينام السجين، وقد تقاسمنا تحت قصف الصواريخ والقنابل المتفجرة يوم الأسير معا، هيئة اسرى لنا ولهم، صور اسرى لنا ولهم، نظام الاحتلال والهيمنة والسيطرة وحّدنا في الشارع وعلى الرصيف، ويبدو انه لا بد لهذا الاحتلال البشع ان يصاب بجروح عميقة ويدخل الدهشة، ويتعلم ان من يحرم شعبا من حقوقه وحريته سيغرق يوما في العتمة.

أيها السجان: فك القيد عن يدي افك عنك، اوهامك الحالمة، انا قدرك الذي لا ينتهي، جثتي تحت سرير نومك صاحية، يدي تقيد يدك، ولا مناص، انا حفار القبور لمن يحفر قبري بالقنابل المتفجرة، روحي تدخل بيوتكم ومدارسكم واجازاتكم يوم السبت، ويوم تقوم الساعة وننهض معا من عبث التاريخ، ونتداول في ضوء غزة جميع الصور.

أخرجوني من سجونكم لأخرجكم من ذكرياتي وانفجاراتي، صوتي يقيدكم ويشهد عليكم، لا تقتلوني حتى لا تموتوا اليوم وغدا، لا تصدقوا ان هيكل سليمان في ارضنا وهياكلنا وجوف جماجمنا، لا تصدقوا ابن غفير ونتنياهو والمافيا الصهيونية التي وعدتكم بالأرض وبالسماء وبالخبز والعسل، النصر والهزيمة لا تقاس بالأكاذيب والاساطير والحشود العسكرية، اسألوا غزة، لن تشفوا من موتنا وعذاباتنا، لن تغفر لكم قصيدتي القادمة ولا الذاكرة.