نشر بتاريخ: 23/08/2011 ( آخر تحديث: 23/08/2011 الساعة: 09:03 )
الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
كتب رئيس التحرير - بعد رحلة طويلة " نسبيا " ، بدأت بجسر اريحا وانطلقت جوا من عمان الى دبي ومن دبي الى سيئول ، قام وفد معا بتلبية دعوة السفير الكوري في رام الله شونغهام بارك لزيارة الدولة الاسيوية التي لفتت انتباه العالم من خلال تطورها التكنولوجي السريع ، وحين وصلنا مطار سيئول وجدنا التلفزيون الكوري يجري معنا مقابلة ، وعرفنا ان وجود الفلسطينيين - بل والعرب - نادرا في هذا البلد الذي اتخذ مكانه بين اليابان والصين ، اي بين عملاقين لا امل من الناحية النظرية والعملية في تحدّيهما .
وكوريا لم تكن موجودة على الخارطة حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية ، فقد كانت مستعمرة يابانية ، وبعد مقاومة واتفاقات دولية ، جرى نزعها من اليابان واعلان تأسيسها دولة الا ان حربا اهلية ضربت البلاد ، ورفضت كوريا الشمالية الاستفتاء الذي اشرفت عليه الامم المتحدة واتخذت بيونغ يانغ عاصمة فيما سيئول عاصمة الجنوبية .
والغريب هنا ان الدخل القومي في كوريا كان قبل 50 عاما الاقل على مستوى العالم ، بل ان الصومال كانت افضل من كوريا بكثير ، فكيف نجحت كوريا ذات الخمسين مليون نسمة والفقيرة والمستعمرة من الانتشار في العالم لتصبح قبلة التكنولوجيا والديجيتال والثلاثي الابعاد واجهزة سامسونج وسيارات هونداي و L G واشهر مسلسلات وافلام جنوب شرق اسيا ، بل واسيا ايضا ؟؟ بل ان الاغرب في ذلك اننا وجدنا اطباء من اليابان جاءوا يتدربوا في مشافي كوريا الشهيرة باجراء العمليات الجراحية بواسطة الروبوت !!!
ومن خلال الجولات التي قمنا بها حتى الان يتضح ان المسوؤلين في كوريا يعزون سبب هذا النجاح الى مسألتين لا تخطران ببال علماء الاقتصاد عادة ، الاولى هي شخصية الانسان الكوري والتي تمتاز بحب العمل والنشاط وبذل المجهود لساعات طويلة وصبورة في التجربة والمختبر الى حين النجاح والوصول الى الغاية بطريقة مذهل . والسبب الثاني هو وجود دكتاتورية !!!! حيث كان قادة كوريا الجنوبية اقوياء ولكنهم ليسوا فاسدون وبالتالي نظموا الحكم وامسكوا بتلابيب السلطة وجعلوا الشعب يجري ويهرول نحو غايات واضحة بعيدا عن الهرطقة واضاعة الوقت . ليصبح الدخل القومي للفرد الان نحو 18 الف دولار سنويا ، ولمزيد من التفصيل فان خريج الجامعة يحصل هنا على ما قيمته 3 الاف دولار شهريا حين يدخل سوق العمل .
ورغم اننا غير معتادون على اللغة العربية الفصحى في حياتنا اليومية فقد وجدنا انفسنا نستمع الى المترجمات ونرد عليهن باللغة العربية الفصحى ، وكنت اعتقد ان الفنان المصري محمد هنيدي في فلم فول الصين العظيم يبالغ في حواره مع المترجمة لي ، الا ان هؤلاء المترجمات اللواتي يتعلمن اللغة العربية في الجامعات الكورية لمدة 7 سنوات يحصلن على لغة عربية متقنة اذهلتنا ، ولكل واحدة منهن اسمها العربي ، وقد كان اسم مترجمتنا شادية ولكن مترجمة اخرى قالت بحزن انها لم تجد اسمعا عربيا بعد ، فاقترحنا عليها خديجة وفاطمة وصبحة لكنها اعجبت باسم ناديا ، وصار اسمها وحتى زملاؤها الكوريون صاروا ينادونها نادية . وانت تحتاج الى فترة لتعتاد على الترجمة العربية من شخص كوري لا تعد اللغة العربية لغته الام .فيمكن ان تسألك فجأة على النحو التالي ( ما الذي يدور في خلدك ؟ ) او ان تسألك ( وهل فتّ ذلك في عضدك ؟ ) او ان تقول لك على نحو مفاجئ : ان هذا الجهاز كاديرون على ان يهلل الرنين المناطيسي بالوان ابعاد تلات وتف متتور هنا بتريكة نامية ومفيتة . لتعرف بعدها انها كانت تقول لك : ان هذا الجهاز قادر على تحليل الرنين المغناطيسي بالوان ثلاثية الابعاد وان الطب متتطور هنا بطريقة مفيدة ونامية .
على كل حال لم يستغرقنا سوى يومين واصبحنا نتحدث مثل المترجمين ، وصار الزميل خليل يقول لي : عمت صباحا يا اخي .وانا رأيت في ذلك حالا طيبا له ولنا وامل ان يستمر كذلك طوال الحياة وان ينسى لهجة البلد ، اما الزميل محمد فوزي فقد اعتاد ان يسير متل اهل كوريا بخطوات قصيرة وحثيثة ودائم العجب مما يرى من ابداع التكنولوجيا التلفزيونية واداوات العمل .
وفي كوريا التقينا طبيبا من السعودية يتدرب في مشفى على جراجة بواسطة الروبوت ، والتقينا في الشارع تاجرين من غزة ،جاءا يبحثان عن رزق وفير وكانا يسكننا قرب المسجد ويشعران بالطمأنينية والراحة . وسمعنا ان قتاة واحدة من جنوب الضفة جاءت لاستكمال رسالة الماجستير هنا .
وفي كوريا لا يفوتون متابعة اخبار المنطقة ، وتابعوا وابلغونا اخبار سقوط طرابلس ، ويتحدثّون عن سقوط الاسد في سوريا ، وهم يتعاملون مع العرب كما يتعامل العرب مع سكان اوروغواي مثلا ، يعرفون اخبارنا ويتمنون علاقات طيبة وتجارة ، وليس لهم اي برامج خاصة عندنا ، لكنهم قاموا بفتح مكتب ثقافة كوري وحيد في العالم العربي وهو موجود في القاهرة .
المسؤولون هنا كانوا يتمنون اي علاقة ثقافية مع مؤسسات فلسطينية ، وبالطبع قبلوا باي دعوة يجري توجيهها لهم ، فهم مثل الشعب الفلسطيني يحبون السفر والتعرف الى البلدان الاخرى .
وانا اعتقد ان الشعوب العربية وفي ظل الثورات الحالية تقف امام ذاتها وامام العالم وعليها ان تختار طريقة عمل قادمة وان تنتقي تجربة تحاكيها - وليس تقلّدها - ولان العرب لا يستطيعون فورا محاكاة امريكا او اوروبا اقتصاديا ومجتمعيا ، عليهم ان يختاروا طريقة عمل خاصة بهم تناسب الدول النامية ( تجربة تركيا العلمانية - او ايران القومية الفارسية الاسلامية - او كوريا البوذية التكنولوجية - او ماليزيا وخطط اقتصادها طويل المدى ) .
ان اقامة حضارة عربية مفيدة للبشرية اهم بكثير من اقامة انظمة حكم وفضائيات تخسر الملايين لترغمنا على مشاهدتها ، ويكفي فنلندا مثلا ان لديها شركة نوكيا ، ويكفي كوريا انها تصنع الجلاكسي الذي ينافس اي باد ، وهونداي التي تنافس فورد ، يكفي الهند انها تصنع فلاشات الكمبيوتر ويكفي ان نعرف ان كل النفط العربي والاحزاب التي تجيد الخطابات الطويلة وملأت اذان الاجيال العربية صراخا لم تستطع ان تمدّ سكة حديد نظيفة ولا قطارا سريعا ولا ان تقيم حديقة غناء او خيمة حرية واحدة .
لسنا بحاجة الى كوريا لنعرف من هم ... ولكننا بحاجة الى كوريا وتركيا وايران وماليزيا لنعرف من نحن في هذا العالم !! وعلى باب استوديو ثلاثي الابعاد تسألنا المترجمة عن ماذا نتحدث ولماذا نحن غاضبون ؟ قلنا لها نحن نسال أنفسنا عن شخص لا يزال يعمل على البعد الاول ويسألنا : من انتم ؟
واستغربنا انها ضحكت وقالت : اها انها عبارة القدافي الشهيرة . لم نعرف ماذا نقول للكورييين : فهربت الى المزاح وقلت :
انا دافع ثمن بقائي هنا في كوريا !!!! فضحكوا وضحكنا من شدة الالم .لانهم هم الذين دفعوا ثمن بقائنا في فندق ماريوت كوريا .