نشر بتاريخ: 26/04/2014 ( آخر تحديث: 03/05/2014 الساعة: 14:16 )
الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
المصالحة فكرة نبيلة ، وقد لا نفهم جميع تفاصيلها الان . ولكننا نحس بها وهذا هو المهم .
ومثل ابناء جيلي ، كنت محظوظا ان أتربى على قراءة الادب الذي كتبه عمالقة الفكر الثوري ، ومنذ نعومة أظافري قرأت رواية "عائد الى حيفا " للاديب الشهيد غسان كنفاني ، وقد هزّت قصصه وجداني ، واستوقفتني براعته في توصيف ما مرّت به العائلات الفلسطينية ، ورغم ان قصص وروايات الاديب كنفاني ترقى الى مستوى أعلى من مستوى جائزتي نوبل وبوليتزر ، الّا انه لم يطمح بأية جائزة ولم يفكر بها اساسا . وحين فخّخ الموساد سيارته واغتاله في بيروت حصل على جائزة الشهادة و"الخلود "، ومن رواياته ومسرحياته موت السرير رقم 12 والشئ الاخر وام سعد ورجال في الشمس وجسر الى الابد والباب وغيرها ، ولكن رواية عائد الى حيفا هي الاقوى والاكثر ابداعا في عقلي وقلبي .
حين أصبحت شابا يافعا ، عدت وقرأت " عائد الى حيفا" مرة اخرى ولكنني ايضا لم افهمها بشكل صحيح ، فقرأتها مرة ثالثة في السجن ، ومرة رابعة بعد سنوات طويلة ، ولكن وفي كل مرة كانت الاسئلة تزداد في داخلي أكثر وأعمق من ذي قبل . وفي كل مرة أندهش من ابداع الاديب غسان كنفاني وأتمنى لو انه على قيد الحياة لاجري معه مقابلة خاصة حول هذه الرواية .
ثم اكتشفت انني لم أفهم الرواية لانني اطرح الكثير من الاسئلة ، فيما تحتاج هذه الراوية بالذات الى احساس ولا تحتاج الى أسئلة من قبيل : كيف خرج من حيفا ؟ ولماذا عاد الى حيفا ؟ ولماذا تحدّث مع الغريب الذي سكن بيته وأقام فيه ؟ ولماذا لم يتحدث مع ولده من صلبه بعد أن أصبح جنديا ؟ ولماذا يتحدث الولد اللغة العبرية ولا يفهم اللغة العربية ؟ ولماذا سكت الزوجان الغريبان وطلبا منه ان يتحدث مع ولده اذا أراد أن يجرّب ذلك ؟ ولماذا غادر المنزل وخرج دون ان ينبس ببنت شفة ولم يحاول ان يتحدث مع ابنه ؟ ولماذا في كل مرة نقرأ الرواية نشعر بالألم والحنين يقطعان لحمنا ويكسران عظمنا ؟ هل أخطأنا ؟ هل أجرم العالم فينا ؟ هل نؤمن بما قدر الله لنا ونسكت ؟ ام نثور ونموت ونحن نثور من شدة الغضب والألم ؟
وفي هذه الراوية يقول كنفاني ان الانسان قضية ويقول : أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كلّه .
ولذلك ومجرد احساس المرء بقضيته تصبح الاجابات امامه واضحة ولا تحتاج الى كل هذه الحيرة ، ولذلك تراني يزداد ألمي أكثر حين أدخل حيفا بلونها الفيروزي ، وأرى خليجها ، وأقف على جبل الكرمل وأنظر منها الى اسوار عكا .
غسان كنفاني ثائر رومانسي ،ولكنه كاتب لا يرحم قراءه أيدا ، ولا يغفر لهم سذاجتهم . بل يستحثّهم على التحدي والاضطلاع بدور ، ولا يقبل ان يتركهم مجرّد قراء . وهو القائل : إن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالبا إلى الفهم، بل تحتاج إلى الإحساس.
سادتي
انتم لستم مجرّد قرّاء ، أنتم شركاء في كتابة وصنع التاريخ .