نشر بتاريخ: 11/02/2015 ( آخر تحديث: 12/02/2015 الساعة: 00:22 )
الكاتب: محمد اللحام
اقتربت من والدي وهو يقطع في لحمة بأكياس صغيرة بغرض توزيعها للفقراء في المخيم بعد أن وصلته من فاعل خير وهو الشيخ المؤتمن للصدقات من البعض. وفي غفلة سرقت قطعة لحمة لا يتجاوز وزنها في أحسن الأحوال الوقية "250" . فلحق بي والدي غاضبا جدا ويصرخ " تعال رجع اللحمة " إلا إنني أطلقت لسيقاني العنان وذهبت لإشعال نار وشواء اللحمة التي رفض والدي ان يعطيني جزء منها رغم إلحاحي الشديد وتعبيري عن رغبة كبيرة في قطعة صغيرة اشتهيتها ونحن نعيش الحرمان والظروف الصعبة بعد حرب عام 1967 والنكسة التي حلت بالشعب الفلسطيني .
في اليوم الثاني ذهب والدي من المخيم "الدهيشة" سيرا على الإقدام لمدينة بيت لحم وقام بشراء نصف رطل لحمة "6 اواق " ووضعها مع الأكياس وقام بتوزيعها خوفا من حساب الله على فعلتي .
هذه الرواية قصها علي أخي الكبير حسن بعد وفاة والدي بأيام في إشارة حقيقية لمدى التقوى التي كان يتمتع بها الحج الذي كان لا يحبذ ان يناديه الناس "بعبد النبي" كما هو اسمه في الهوية بل كان يقول نادوني "عبد رب النبي" وكان يسعد باسم عبد الحميد وهو الاسم الحركي له أثناء التحاقه بحركة "الجهاد المقدس " وهو المولود في قرية بيت اعطاب 17 كم غرب القدس عام 1919 التحق وهو فتى بثورة عام 1936 -1939 واعتقل عام 1939 على يد الانجليز لمدة 6 شهور في سجن عتليت بعد ان ودع شقيقه الشهيد محمد الذي أسماني على اسمه والذي ارتقى شهيدا عام 1938 في معركة بني نعيم "شرق الخليل" وهو يجاهد ضد الانجليز بجانب الشهيد عبد القادر الحسني الذي أصيب بالمعركة ولا زال عمي مدفونا في مقبرة الشهداء ببني نعيم . كما رافق ببندقيته كافة المعارك والعمليات ضد الانجليز مع خاله الشهيد احمد جابر الحوباني "ابو الوليد" قائد منطقة العرقوب الذي أعلن الانجليز عن مبلغ مالي مغري لكل من يخبر عنه حيا او ميتا لحجم الأضرار التي اوقعها بهم . فرد الناس على ذلك بدفنه بعد استشهاده تحت شجرة خروب اقتلعوها وأعادوها للتمويه على القبر لكي لا يستدل على جثمانه الانجليز . ولو سالت أي رجل معمر من العرقوب "بيت عطاب او جراش او علار او عرتوف او الولجة او بيت جالا او بتير او ديربان وراس ابو عمار والسفلى ودير الشبخ وبيت فار اواو " سيقول لك من أبو الوليد .
كان عبد رب النبي حافظا للقران غيبا وشيخا ومؤذنا للمسجد ويعطي درس الدين في المسجد وهو الذي عمل لفترة معلما قبل النكبة بعد حصوله على شهادة السادس الابتدائي وكان من الصعب ان لا تجده صائما كل اثنين وخميس .
وفي عام 1987 كنت في التاسعة عشر من عمري معتقلا إداريا في سجن جنيد وجاء لزيارتي وكان قلبه رحيم ودمعته قريبة لم يستطيع إخفائها وهو يشاهد اصغر أبنائه الذكور خلف شبك وقضبان .وفي الزيارات التي تلت ذلك سالت سبب غياب والدي عن الزيارة فقيل لي انه معتقل في سجن "المسكوبية" وهو أشهر مركز تحقيق إسرائيلي كمسلخ . خرجت من السجن سألته عن 25 يوم أمضاها في التحقيق فقال لي نفيت نفيا قاطعا كل اتهم التي حققوا معي عليها وهي إحراق منشاءات الورشة التي احرسها في القدس "فوالدي كان يعمل في شركة كناطور" على " جرافات وخلاطات ومضخات باطون " أحرقت بالكامل ليلا . وأكمل حديثه " لقد عز علي مشهدك في السجن حتى وجدت طريقة لتفريغ غضبي ".
وقبل رحيله وهو قريب على الثمانين وقبل سنوات من وفاته أصيب بأعراض "الزهايمر" حتى أصبح لا يتذكر طريق العودة من مسجد المخيم للبيت بمسافة لا تتجاوز 100 متر بينما سهونا عنه مرة لتسعفنا الصدفة بان يتعرف عليه جارنا "منير قراقع" العائد من عمله وهو في الطريق الى بيت عطاب بلدته الأصلية التي تبعد حوالي 30 كم عن الدهيشة ! نسي الطريق من المسجد للبيت دون ان ينسى الطريق الى بيت عطاب قاطعا الخضر وبتير وحوسان والقبو ..".
هذا الجيل ورغم كبريائه الا ان اللجوء جرحه جدا بعد ان كان فلاحا ومناضلا وفارسا أصبح في خيمة مع بطاقة تسول تسمى "بطاقة تموين".�
في احد الأيام وكنت جالسا بجانبه ويتكئ على عصاه نشاهد التلفاز وكان المشهد لجنود من الاحتلال يطاردون شبانا في القدس "باب العامود" وفوجئت به يقف ويقول لي " هؤلاء يهود " فقلت له "نعم" فقال " حم أمكم على عزا أبوكم ..هم اليهود دخلوا وانتم قاعدين ..افا على الزلام " ورفع عصاه متجها للباب .
�استوقفته وأرجعته للمقعد وانأ لا اعرف هل ابكي ام اضحك على الواقعة التي أشعرتني ان والدي ورغم "الزهايمر" لم ينسى جرح النكبة العالق في القلب والذاكرة .
وعام 1999مات عبد رب النبي دون ان ينسى بل حافظا لطريق العودة لبيت عطاب ولكتاب الله .
"رحمك الله يا أبي أنت وكل من جرحته النكبة ..واستذكرت هذه الحكايات عندما علمت بوفاة صديقك شاكر سليم الجراشي قبل أيام رحمه الله وقررت ان اخط شيئا من الذاكرة احتراما ومحبة".