نشر بتاريخ: 18/02/2015 ( آخر تحديث: 18/02/2015 الساعة: 10:33 )
الكاتب: المتوكل طه
وصل الصوت إلى الطرف الآخر عبر الهاتف المحمول المُهرَّب سرّاً من تحت عيون السجّانين.
قال حسن: عظم الله أجرك.. لقد ماتت الحاجة ..أخي عمر.. ماتت الوالدة .. شدّ حيلك
***
صراخ مكتوم ينفجر وراء الخرسانة المتجهّمة، فتطير قلعة السجن، وتتفلّع الجدران، ويتشقّف السقف، ويتعرّى القيد على ذراعي الغضب الغولي الذي يفتّت الكلبشات الحديد، ولم يتهاطل الدمع سخياً خشناً على وجه السجين، بل حمحمات ألف حصان ناري يتفلّت من جسد عمر لتشقّ العتمة الصلدة.
ربما تنهنه وانطوى، وسمح لعينيه لتذرفا زهر الحزن المخضلّ بالفجيعة، وربما جاح وناح ولفّت به أرض الرطوبة والبرودة.
يمدّ يده لقضبان الزنزانة، فهي الوحيدة التي شهدت الموقف معه، ومن واجبها أن تقدّم له العزاء .. وقد فعلت.
ولرامز العايدي، الفلسطيني الذي اعتقل وهو قادم من لبنان الثورة في دورية إلى الوطن المحتل، وصارت أم حسن أُمَّهُ بالتبنّي، أن يدلح كل مياه رأسه الموجوع المليء بذكريات تلك المرأة ،التي لم يعرفها من قبل، والتي انتصبت أمامه وقالت له: أنت ولدي منذ اليوم وأنا أمّك.. حتى تتحرر. ولمحمد ابن مخيمات الأردن الذي وجد فيها والدته الباكية تحت زنك مخيم الوحدات، ولم تتمكن من رؤيته في ملابس السجن الكابية، وقالت له أم حسن يا ولدي أنا أمُّك التي لن تبكي، لتخرج وتعود ثانية إلى عروسك المنهوبة.. لمحمد، الآن، أن يضع رأسه بين كفّيه ويشهق بماء النار. وللقدس أم الرايات والأسوار والنايات والشجر والشرفات وأكاليل الدم الحرّ، وسيِّدة البرق والأغاني والهتاف العنيف في وجه الغزاة، ووالدة الأقواس والزفّات الساخنة والعيون النافذة وشبابيك الصلاة... للقدس الثائرة الحائرة، المجبورة المكسورة، الهادرة النادرة، الجديرة بالشهداء وأمّهات المواقد والسكّر المحترق على الطرقات، لهذه المدينة العاصمة القاصمة، الصابرة المثابرة، المغدورة من إخوتها الثملين على الجفنة الباردة، ولهذه البيوت والطرقات والحجارة الأقمار.. أن تطوي ثنيات قلبها على أم حسن، وتمجّها مثل زهرة الجمر، وتنفثها نيازك تتناثر في سماء أم المدائن الزاهرة الأنيقة الشقراء، العروس التي لم تجد لها ندّاً من الرجال سوى أولادها، الذين يحملونها على أكتفاهم جدائل عاصفة، وأعراف أسطورة فذّة، فوق صدورهم العارية، في مسيرتهم الحاسمة نحو الخلاص.
استشهدت أم حسن، وابنها المناضل الجسور عمر شلبي في زنازين المجرمين ومعه ولده إياد، ليعلم القاصي والداني أن أهل المدينة العاصمة إما في السجون وإما في الرباط وإما في الاعتصام وإما في مقبرة الرحمة أو اليوسفية.
إذن، من حقّي أن أبكي أمّي أم حسن نيابة عن أخي عمر، ومن حق ولدي أن يجهش على قبر جدّته ويبلله بدمعة كاوية.
وللقدس أن تجد نبعاً جديداً في جسدها يمدّها بما يليق من ماء يصلح للبكاء، وَلَهَاً على لحظة واجبة الوجود، يكون فيها الأسير في حضرة أمه الملفّعة، والذاهبة إلى الأبدية الغائمة.
وأم حسن، الشهيدة بامتياز، لم يحتمل قلبها ما احتشد من أسى وغضب وأسف، على ما يجري في القدس، وخاصة في فضاء المسجد الأقصى، فلم يحتمل ما رأى.. فانفجر بين ضلوعها... فماتت.
اليوم، تنخلع زيتونة من مصاطب قبة الصخرة، واليوم، وبعد أن صلَّت كل القدس عليها داخل ثاني المسجدين، انتبهوا أن النارنج وأشجار الحرم كانت تؤمِّن وتنحني وتبكي معهم على رفيقتهم أم حسن.
ولحيّ الواد العميق، أخدود الشمس والشهد والصهيل، وأزرار الكرز الوهاجة، ومهبط الباعة بحمولة الفجر والندى،وشقحة القمر ..أن يرفع ملصق الشهيدة أم حسن، ليلهث طفل بحقيبته الملوّنة بالحصى والأعلام، على رصيف الممرّ العابق بالقرون والقرنفل، وأمام ناظرهِ أيقونة الأرض بملامحها السمسمية، وثوبها المريميّ الموشوم بعروق الزهراء الذهبية.
وللقدس، كتاب السماء وصحن الربيع ووشاح الشمس وبسملة التراب وسلالم الأنبياء ودرج النجوم والحبق والبلور وقناديل الأندلس وجراح الناي وبخار الكوانين الشهية والزعفران، وياقوتة الصباح وغزالة التاريخ، والتكايا والزوايا وحيطان الأزقة والحارات..للقدس أم الأناشيد ورقصات الحليب في الليل، وسحاب الوسائد وأحلام المراجيح والأعياد... لها أن تقبل قُبلتي على اليد التي مسّدت حجارة البلدة القديمة وربّت الأبواب وعانقت الأعمدة والشواهد وتناسخت غيماً في كل دار .
ولإلياء اليتيمة، وليبوس العظيمة، لقابلة الصنوبر والزيتون والشجن أن تفرش حنّون تلالها من المُكبّر حتى المآذن والجرسيّات، طريقاً للبُراق، ليعود، ثانيةً، يحمل أم حسن، ويتباهى على الكون بخيّالة الرعد الطاهر، التي ألقت ظهرها النبيل على جداره وصدّت اهتزاز الشيطان وتجاعيده، وأبقت أعشاش النبات ممرعاً بأسماء الحق المنيع.
وللقدس أن تفتح كفّ أم حسن وهي مسجّاة مطمئنة، لتجد مفتاح بيت أبيها في القطمون غرب القدس المُضيّعة، وفي تلافيف صدرها كوشان الدار والعليّة الحجرية البيضاء.
وللقدس ستّ الأرض الأحلى والأكمل، أن تعمّم صورة ذراع أم حسن بعد أن وشمت البلابل بمناقيرها أسماء الشهداء والجرحى والأسرى واللاجئين على سواحلها الممتدة الصلبة.
وللقدس ابنة العبقرية الأزهى والأعمق أن ترسل تسجيلات صوت أم حسن ليكتشفوا أن فيه صوت القتلى، ونداءات الساحل الطويل الغريب والبحر العاشق، وأعراس ليمونة الحيّ.
أم حسن أسم آخر يليق بالقدس، وحلم ينبغي أن تراه العيون، لينجلي المشهد كاملاً بكل دمه وزغاريده ومناديله الراعفة.