الكاتب: سليم النفار
والشعرُ فرجٌ ليست خصيصتُهُ...طولَ الليالي الا لمُفْترِعه" ابوتمام"
قال احدهم للشاعر والمسرحي الانكليزي: بن جونسون : سيدي ... ما هو الشعر ؟
فأجاب جونسون : "من الاسهل يا سيدي ان اصف لك ما ليس بشعر"
وهذا المدخل لا يقودنا الا لتأكيد سمو الشعر، وحالة الشاعر التي تخلق عوالمها الخاصة وفق ادواتها ورؤاها الجمالية، والتي تستعصي كثيرا على التوصيف، ولكن هي محاولات نقترب فيها، نحاول ملامسة الشعر وذاته الشاعرة، المكتظة بالرؤى والاحلام والافكار، فأرض الشعر تحتاج لفلاح مُجد يستطيع حراثتها ولا ارى صديقي صقر "بمعنى على التل" غير ذلك الفلاح الماهر، الذي يُحسن حراثة ارضه الشعرية، والتحليق ايضا في سماء اشجارها الوارفة.
الوضوح والعمق... مفردتان تليقان بمعنى صقر عليشيالذي تركه هناك على تل مخضوضر متعدد الزرع، فما شئت خذ منه، كلما استطعت اليه سبيلا.
بلغة رقيقة كجدول ماء القرية وايقاع ليلها الهادئ يتأمل صقر الاشياء يتناول تفاصيلها بحذاقة الصانع الذي ينتقي مكونات صنعته ,وبدون أي تكلف اضافي ,يركب عالمه البسيط , الذي يريد ,ذاهبا نحوه بأسئلة مفتوحة لا تستجدي جواباً , بل تتأمل الحال الذي وافقه ,من خلال الذات الشاعرة , فهل كان الشعر غير ذلك ؟
من البسيط الشفيف , ومن مكونات الذات وهجساتها , ومن رؤاها الحالمة بعالم أجمل , ومن تأملاتها ينداح الكلام , راسما ً صورته الأبهى , هامسا ً بصوته , لعلها تستفيق الحساسين في أدغال الذات المتعبة ,من تفاصيل أيام مكتظة بألون شتى من الحزن , ويستقوي عليشي على كل ذلك بروحه , التي تستقطر العذب الرقيق من الصور الشاعرة , في تراكيب سلسة تلامس شغاف المتلقي ,أيا كانت حدود معرفته ودرايته بالمنجز الشعري والثقافي ,وأعتقد أن هذه خصيصة تحسب لصقر.
وحتى لو عثرت على جوابٍ
فلا تأبهْ...
وعِفْهُ هناكَ
وارجعْ
خفيفاً
ليسَ عندكَ من جوابِ
كتابة الذات
لقد اختلفت الآراء منذ البدايات حول الشعر ,وحول وظيفته ,ودوره ,و محموله الافتراضي ,وكثير من طالب الشعر والشاعر , بأجندات كثيرة , على المستوى السياسي والاجتماعي ,غير انه ,لم يكن الشعر يوما من الأيام , الا سجل الذات الشاعرة , مخلصا فقط لنداء صوته , وجمالياته فهو لا يكتب غير ذاته , عارضا ً لها , ومنافحا عن أحلامها , وقيمها ورؤاها , وكل ما يتقاطع معها من المناخ العام , هو يخدم بالأصل الحالة الخاصة للشاعر , والتي يسعى اليها متكئا ًعلى تلاقي المجموع أو جزء منه , في حالته التي تنشد رؤى ما في سياق الحياة ,فلا تطلبوا من الشعر أن يكون سواه , بجنونه وسكره , بتأمله وثورته , لن يكون غير ذاته , وهل الدفاع عن المجتمع يكون بغير الدفاع عن الذات , وتعميق مجالها الحيوي ؟؟
أخشى عليه صواباً أن يحلّ بهِ
يوماً...
وأخشى إذا ما شابهُ زللُ
معنىً على التلّ
والوادي العميقُ
هنا
معنى على التلّ
والوادي العميقُ
أنا
والغيم خاطرةٌ
في النفس تنتقلُ
اغتراب
وفي دائرة البحث المتوالية عن الذات وأحلامها , يصطدم الشاعر بما لا تطيق النفس البشرية, من العذاب ,فيهرب الى داخله حينا ً , والى الطبيعة أحياناً ,يتأمل الذات والمكونات المحيطة بها ,ليتحد هو وذاته في حالة اغتراب ,عن كل ما يؤذي طبيعته الرقيقة الحالمة , في واقع خشن في معايشته , متجهم في رؤيته , وكذلك أرى صقر يبحث عن دو الشاعر , مؤكدا أهمية حضوره في النسق الاجتماعي , وطرح رؤاه فيما يخص الشعر واشكال واساليب الحياة , مؤكدا وظيفة لا مناص منها للشاعر , رغم الاغتراب الذي يحيق بالشاعر ورغم الحداثة , التي تفرض انماط جديدة للغة , وتطرح رؤى مغايرة لواقع الحال وللدور المناط بالشاعر , فما زال عليشي يعلي رايته الخاصة في هذا الزحام , منتصرا لقيم الجمال داخل الذات الشاعرة سواء كانت : وطنا او امرأة او شعرا او اساليب حياة .
وياللغرابةِ !
حين تمعنتُ في قطرات الندى
لم أجد ما يشابهُ ... نفسي
عين التفاصيل
لقد استطاع ريتسوس اليوناني بمشهده الخاص بالتفاصيل ,ان يترك اثرا جليا عند جيل الرواد في الشعر العربي , في اواسط القرن المنصرم ,حيث تعتمد قصيدته على نمط الحكاية , والمفارقة المدهشة وهو شكل بديع من الشعر , استطاعت عين الصقر العليشي ,ان تلتقط هذه التفاصيل بشكلها الخاص , ورؤاها المغايرة ,موظفا اياها بشكل بديع ,يؤكد سعة ثقافته ,وقدرته الفذة على توظيف المشهدية الخاصة بريتسوس في نصه الخاص , الذي ينضح بتفاصيل شعرية عالمه ,في سياق سعيه نحو عوالمه الداخلية , حيث ينفتح الى عوالم اصدقاء تتشابه مع ذات الحالة , فيخاطب الشاعر صديقه " عباس بيضون " بلغة التفاصيل اليومية , حيث الاحتكاك المباشر مع الواقع ,ولكن وهو يخاطب الشاعر بالتفاصيل ,يحذره قائلا : "فأنت على الارض لا في سماء الشعر " وكأنه يحذره من مغبة الوقوع في شرك التفاصيل الصادمة , التي لا تفهم روح الشعر وطيبته ,وانسانيته ,فيدعوه الى التسلح باليقظة , فالعالم الارضي عالم قاس , لا يشبه ما نذهب اليه
في احلامنا الشاعرة , ولا ارى عليشي هنا الا بجبة الصوفي الحالم , الذي يعيش أو يدعو الى حياة في عوالم مفرداته.
أنتَ قربَ الرصيفِ
انتبهْ
ليستَ قربَ القصيدهْ
وفي حائطٍ سيكونُ ارتطامكَ
لا بالمعاني الجديدهْ
* *
زِنْ خطواتكَ ،
تحتاجُ وزناً هنا
لا كما في قصيدةِ نثرِ
حذارِ...
فأنت على الأرضِ..
لا في سماءٍ لشعرِ
اخيرا كلمة لابد منها : ان صقر عليشي استطاع في "معنى على التل" ان يحرث ارض الشعر العربي والانساني , كما اسلفت في بداية حديثي عنه , مطلاً َ على تجاربٍ سابقة , وحارثاَ لعميق ما وصلت في المعنى والرسالة , عبر ادواته وايقاعاته المختلفة ,فاخذ من الكل الشعري ليصنع كله الخاص ,معنى على التل ,ديوان شعري جديد في تراكم عليشي والتجربة الشعرية جدير بالقراءة والانصات لصوت مختلف .