الخميس: 26/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

فلسطين والسعودية

نشر بتاريخ: 05/03/2015 ( آخر تحديث: 05/03/2015 الساعة: 12:28 )

الكاتب: سري سمور

أقيمت الدولة السعودية الأولى سنة 1756م والدولة الحالية التي أسسها الملك عبد العزيز أكبر من الدولة الأولى وأهم ولكن أشير إلى ذلك لإدراك مدى خبرة الأسرة المالكة ومعايشتها عبر أجيال للتغيرات والعواصف والأنواء التي شهدتها المنطقة.

والعلاقة بين فلسطين والسعودية قديمة، وهي سابقة لقيام الدولة السعودية، والتقسيمات الإقلمية الحالية، بحكم أنه قد أسري بالرسول-صلى الله عليه وآله وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو ثالث المسجدين.

وبعد قيام الدولة السعودية فإن العلاقات قد صارت أكثر كثافة ومتانة، وفي حرب 1948 شارك الجيش السعودي بكتيبتين ضمن القوات العربية الأخرى التي انهزمت أمام العصابات الصهيونية...كما أن مئات الآلاف من الفلسطينيين ما زالوا يعملون في السعودية.

ولولا موقف الملك فيصل بن عبد العزيز-وله شعبية واسعة في فلسطين- سنة 1973 بوقف تصدير النفط لما كان هناك تفكير بالحرب لدى سورية ومصر لاستعادة شيء من ماء الوجه بعد هزيمة 1967...وحتى جمال عبد الناصر أدرك بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 ألا فائدة من سياسته السابقة بمعاداة الحكم في السعودية، وألا غنى له عن الدعم السعودي بالمال والموقف السياسي.

وشهدت العلاقات السعودية-الفلسطينية توترا بعد دخول صدام إلى الكويت، وما تبعه من إعلانه العداء للسعودية وعموم أنظمة الخليج، واعتبار الموقف الفلسطيني مؤيدا للموقف العراقي آنذاك؛ علما بأن القضية الفلسطينية كانت الخاسر الأكبر من تلك الأزمة وتبعاتها، ووقوف الفلسطينيين مع العراق لم يكن كرها أو بغضا في الكويت أو السعودية بقدر ما هو موقف تلقائي يؤيد أي قائد أو دولة ضد إسرائيل وسياسات الأمريكان، ولأن العراق قدم لفلسطين مثلما قدمت السعودية... ومع ذلك لم تقطع السعودية علاقاتها تماما مع منظمة التحرير وأبقت على شعرة معاوية، وكان عدد المتضررين من العاملين في السعودية من الفلسطينيين قليلا نسبيا.

والسعودية لها علاقة خاصة واستراتيجية ومعلنة في كثير من جوانبها مع الولايات المتحدة الأمريكية سياسيا واقتصاديا وعسكريا وأمنيا، وهذه العلاقة لا يمكن إغفالها، وإدراك أن هامش الحركة لدى المملكة محكوم بسقف هذه العلاقة، ولهذا أعلنت السعودية تأييدها لحقوق الشعب الفلسطيني، والتزامها بـالسلام العادل ومبدأ الأرض مقابل السلام وفق القرارات الدولية.

ويسجل للسعودية أنها لم تتصرف مثل نظام حسني مبارك عبر فلسفة ملخصها أن الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب حيث أن طريق الرياض مباشر إلى واشنطن، ولم تسع لإرضاء الأمريكان بالتقرب من الإسرائيليين بطريقة الاستخذاء التي انتهجها مبارك.

وامتازت السعودية بسياسة هادئة لا تقوم على الشعارات الكبيرة، والتصرف بانفعال وتسرع، وانتهجت التؤدة في خطواتها، في معظم الأوقات، ولهذا كانت دوما وسيطا ماهرا، وحسبنا أن نتذكر اتفاق الطائف بين أقطاب لبنان.

إلا أن أحداث 11 أيلول/سبتمبر2001 في نيويورك وواشنطن جعلت السعودية في مرمى الاستهداف وتحت المجهر؛ نظرا لأن أسامة بن لادن سعودي ومن عائلة لها وزنها المعنوي والاقتصادي في السعودية، ولأن 15 من أصل 19 متهما بتنفيذ الهجمات في ذلك اليوم من السعوديين، وحتى فيلم فهرنهايت 9/11 اتهم الحكومة السعودية ضمنا بأنها مسؤولة عن الهجمات، وكان هذا الحادث في ذروة انتفاضة الأقصى، وانتهاج شارون سياسة دموية ضد الشعب الفلسطيني.

وهنا جاءت مبادرة ولي العهد السعودي آنذاك عبد الله بن عبد العزيز التي أعلن عنها في قمة بيروت في أواخر آذار/مارس 2002 والتي تتضمن الاستعداد لسلام تام وتطبيع للعلاقات بين الدول العربية جميعا و الكيان العبري مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة سنة 1967، ولم تعترض أي دولة عربية، ولو من قبيل المزايدة على المبادرة، مما يدل على أهمية السعودية في المنظومة العربية الرسمية.

لكن الرد الإسرائيلي على المبادرة كان الاستعلاء والغرور ومواصلة العدوان، ومع أن الرئيس عرفات أعلن عبر خطابه من المقاطعة، حيث لم يحضر قمة بيروت لأن شارون هدد بعدم السماح له بالعودة، أنه يؤيد ويرحب بالمبادرة التي وصفها بالشجاعة، فكان الرد هدم معظم أجزاء المقاطعة في رام الله، ومحاصرته في مبنى صغير داخلها، وشن عدوان بأكثر من ألف جندي على مخيم جنين وهدم بيوت المخيم وقتل وجرح واعتقال الآلاف من سكانه، ضمن ما عرف بعملية السور الواقي، وعمليا كان مصير مبادرة الأمير عبد الله، مثل مصير مبادرة أخيه الملك فهد في فاس سنة 1982 أي أن يكون الرد عليها بعدوان عسكري إسرائيلي شامل سواء في لبنان أو فلسطين!

وبقيت المبادرة وما زالت على الطاولة، ويشهد للسعودية أنها وإن لم يرق لها اعتراض بعض الفصائل الفلسطينية خاصة حركة حماس على المبادرة، إلا أنها لم تتعامل بعدائية مع من يرفض ويعترض من الجانب الفلسطيني.

إلا أن دور وسياسة السعودية منذ المبادرة سواء فيما يخص القضية الفلسطينية أو غيرها، شهدت تراجعا، وظهرت مواقف يفترض أن المملكة بحكم حجمها وأوراق قوتها يجب ألا تقع فيها من قبيل:-

1) ظهر على السطح إعلاميون سعوديون يتبنون مواقف متصهينة تهاجم المقاومة الفلسطينية بل عموم الشعب الفلسطيني، وتبرر لشارون ومن بعده عدوانهم، ناهيك عن إعلاميين يعملون في مؤسسات إعلامية سعودية ينتهجون ذات النهج، وفضائيات ومواقع إلكترونية تحس أنها عبرية ليكودية بلغة عربية، لدرجة أن وزارة الخارجية الإسرائيلية رحبت بمقالاتهم في موقعها وأعادت نشرها في سابقة من نوعها...ولم تتخذ الدولة السعودية أي إجراء للجمهم!

2) انكماش دور المملكة الإعلامي قوى أطرافا أخرى، وسمح لدول خليجية أخرى بلعب دور أكبر من حجمها الجغرافي والتاريخي.

3) غابت المملكة عن أدوار كثيرة في الوساطات وحل الأزمات ورأينا الدوحة تشهد لقاءات بين اللبنانيين، وتجمع أطراف أزمة دارفور، وتلعب دور وسيط مع طالبان، فيم المملكة كأنها تريد الانشغال بذاتها أو بقضايا أخرى، وغابت عن قضايا المنطقة!

4) رعت السعودية اتفاق مكة بين فتح وحماس؛ ومن طيبة القلب الزائدة أن نظن أن عمر سليمان أحب أن يشاركه أحد ملفا يعتبره حكرا عليه، ولكن المملكة لم تضع ثقلها المادي والمعنوي لمتابعة تنفيذ الاتفاق الذي لم يعمّر طويلا، ولكن السعودية حافظت على سياستها المعهودة بعد انهيار الاتفاق بإبقاء التواصل مع كل الأطراف وعدم معاداة أي طرف فلسطيني.

5) ضمنا معروف رؤية وتحالفات وأصدقاء السعودية، وما كان يعرف بمحور الاعتدال، ولكن اندلاع الثورات العربية في 2011 أظهر السعودية بمظهر خارج عما عرف عنها من اتزان في المواقف، والحفاظ على شعرة معاوية مع الجميع، وعدم المبالغة في العداء لأي جهة، ولا داعي للخوض في تفصيلات هذه المسألة فهي معروفة...وكان من النتائج المؤسفة أن الإمارات بات لها نفوذ في القاهرة مثلا إما يفوق أو يوازي دور المملكة!

ولكن قدر الدول الكبيرة والمهمة أن انسحابها أو ابتعادها أو خطأها في التعامل مع ملف أو قضية تظل مرحلة عابرة في تاريخها؛ وحينما نتحدث عن السعودية فنحن نتحدث عن الدولة التي تشرف على الحرمين الشريفين، مهوى أفئدة المسلمين ومحجهم ومزارهم، والدولة التي تنتج ما يقارب 10 مليون برميل نفط يوميا، أي أنها قادرة على التأثير على اقتصاد العالم كله، ناهيك عن تمتع أرضها بخام الذهب، والمساحة الشاسعة، وهي حاليا الدولة العربية الوحيدة التي تختلف عن غيرها وبيدها كثير من أوراق وأسباب القوة، مع ما يتهددها من أخطار على حدودها مع اليمن والعراق، فقد أثبتت عبر تاريخها قدرة على تجاوز الأزمات، خاصة أنها لا تشهد انقساما سياسيا ولا طائفيا أدى إلى نزاع دموي مثل دول أخرى كمصر وسورية.

فدولة بحجم وأهمية ومكانة السعودية وفي الظرف الحالي لا يمكن إلا أن ينتظر الفلسطينيون منها دورا أكثر فاعلية وتأثيرا...وكما نرى هناك مؤشرات على عودة الرياض لحيويتها ودورها، وهناك إشارات واضحة من الملك سلمان أن المرحلة السابقة كانت كبوة عابرة، ولكن ما الذي يريده الفلسطينيون من السعودية؟حقيقة هناك أمور كثيرة؛ وبالحد الأدنى، وبمنتهى الواقعية السياسية بعيدا عن الأوهام، فقد أشرت سلفا إلى خصوصية العلاقات بين المملكة وأمريكا، ولكن هامش المملكة يظل واسعا ومرنا نسبيا وعليه يجب الإعلان عن سحب المبادرة العربية نظرا لعدم استجابة إسرائيل لها وقد مضى عليها 13 سنة، ويريد الفلسطينيون عودة دور السعودية في المصالحة، وتقديم ما يلزم لإنجاحها، كما أن هناك أمل كبير بتدخل سعودي فاعل من أجل ترتيب العلاقة بين مصر وحركة حماس، التي وصلت حدا غير مسبوق من التوتر والعداء، لأن المملكة قاسم مشترك أكبر وكلمتها مسموعة، ومساعدة الفلسطينيين في إنجاز ملفات عدة مثل التوجه إلى محكمة الجنايات الدولية، وإعمار غزة، والضغط على الجانب الإسرائيلي عبر العلاقات الدافئة مع الأمريكان، ولعب دور في صفقة تبادل أسرى محتملة عبر علاقات المملكة الكبيرة، وكذلك رفع الحظر عن د.رمضان شلح ليتمكن من تأدية فريضة الحج.

وحينما يرى الفلسطينيون أن ثمة تقدما في هذه الملفات فيمكن القول أن الرياض غادرت الحالة التي أحزنت كثيرا من العرب والمسلمين، نحو حالة تسرّها وتسرهم.

وعموما فإنني بمشيئة الله سيكون لي حديث آخر أكثر تفصيلا عن السعودية ودورها لاحقا.