نشر بتاريخ: 11/03/2015 ( آخر تحديث: 11/03/2015 الساعة: 18:13 )
الكاتب: بهاء رحال
هكذا تصحو الى غدها مبللة بذكريات مشبعة الحنين وهي تقف على بوابة النهار الناهض بعد ظلام دامس وليل طويل يعج بالأمنيات المعلقة على جدار صمتها النابض بالأمنيات ، فلا هي باقية في مكانها ولا هو ينتظرها وكلاهما يمضيان الى غدٍ آخر على خطى واقع مختلف وظرف محتمل الحياة في نواحيها المعقدة ، تمد يدها للحياة باشراقة الذكريات في جسدها المتعب ويبدأ نهاره مؤبد الحب في بحر الخيال وقد أنهكته بقاياها الجميلة وما تناثر من أحلام على وقع الصدى في سماء المدينة الحافي وبين أزقتها التي تدور في فلكٍ شاء الزمان له أن يكون معقداً بطبيعته السجينة لمفردات سقطت في بحر الخطأ ومحيط الحطيئة وهذا الجريان الهائج في النفس بهذه التراجيديا التي تسكن النهايات ، وهذه الحيرة التي تتبلد في دمه وقد لفها الظنون وشابها وجع الاغتراب في مسافة كانت تقترب منه حتى ظن أنه سيدها بعد أن فرشت له الأرض حباً وملأ لها السماء ورداً وشوقاً فكانا عاشقين في الرحيل .
2
ليلها سهل ممتنع، وفي ضواحيها تسكن رائحة الأجداد، ترى نفسك ماشياً على رصيف شارع وسط الطريق يبدأ بمقهى فاخر يرتاده أغنياء المدينة وزوارها والمغتربون ممن جاءوا لزيارة بيوتهم المهجورة ومساكنهم المؤقتة، وينتهي بك الرصيف بمقهى الفقراء العاديين والبسطاء في حياتهم، وهنا يقع الاختلاف عليك وتسأل نفسك أي الاشخاص أنت!! وفي أي مقهى سينتهي بك المطاف يا ترى!! وهل ستعود مشياً الى الوراء، أم تكمل طريقك الى الأمام!! هي الصدف وأنت في المنتصف، واقفاً بين محطتين، فقد يصادقك الحظ فتحل ضيفاً على أحد أثرياء المدينة ويصطحبك وصديقته الفرنسية الى ذلك المقهى في بداية الشارع، فكن انيقاً ما استطعت، وقد تزاحم صديقك القديم على مقعده في المقهى آخر الطريق فترتشف قهوتك بكامل فوضاك وانفعالك وأنت تستمع لحواراته التي تشكو وجع الحاضر وبؤس الطريق، وتفتح لك باباً من الحيرة وآخر لكتابة قصاصة جديدة من قصاصات رام الله.
3
كأنثى في العشرين من عمرها تغازل الصباح بضحكة ورشفة قهوة ، هكذا تبدو رام الله أول الصبح تندفع الى نهارها بكامل طاقتها وتزاحم سلبيات الحاضر المؤقت بصبر المتوجس لضمير يأتي بفرج السماء ، تحاول التمرد صوب الحياة لتفهم اعداءها جدراتها بالحياة ولو وقعت في فخ الحصار واشتد طفر الناس وانهكوا تعباً وبؤساً ومرارة ، وعلى اختلاف مشهد الليل الهادئ ، تصحو برغبة جامحة لا تبلد فيها على رائحة الخبز والزعتر البلدي وأصوات الباعة المتجولين ، تزدحم الطرقات بالمارة والسيارات وتدب الحياة فيها لتعلن رام الله بداية نهار جديد ، نهار الأزمة المرورية الخانقة على حاجز قلنديا ، نهار الازدحام الشديد والفوضى التي اصبحت تتخذ شيئاً فشيئاً شكل القانون الوضعي الذي اتفق عليه الناس هنا في سلوكهم وطرق سيرهم ومعاداتهم الشديدة لنظام السير والاشارات الضوئية ومواقف المركبات وتعديهم على الارصفة وكأن بينهم عداء قديم ، لهذا تجدنا في رام الله نفعل ما ننتقد عليه الاخرين ويفعل الاخرون ما ينتقدوننا عليه .
4
فجأة تضطرب وتلسعك ذكرى المكان بحيرة المشتاق الى ماضٍ ضللت السبيل اليه ، تحن ثم تجن وتشعل نار الغيرة في دمك وأنت تمر في أزقة لها وقع الذكريات القديمة ولها طعم الغرام ، فالأمكنة تحفظ اسماء من مروا ومن سكنوا ومن عادوا يرقبون ظل ذاكرتهم فيها ولو مصادفة ودون موعد مسبق ، فتفتح لهم نافذتهم البعيدة وتتعرى أمامهم كأنثى فقدت حقها في الحياة .. والأمكنة تبعث فيك ورد الكلام وتعزف لحن الاشتياق المعتق في دمك وتنثر بقايا أحلام فيما تبقى من وقت .. قهوة ورائحة السجائر والعطر الذي يوشوش الروح بأشياء لم تكن عادية ، فتقف عابساً على طرف الذاكرة وتضحك على مافات منها وتضحك أكثر على حاضرٍ يغترب فيك حين يكون بلا طعم ولا رائحة وتعتاد على نفسك المشوشة فيه ، فتمشي مبعثر الشكل في حارات المدينة العتيقة وتشكو مصادفتك التي اوقعتك في ذاكرة رام الله .
5
فوضى المدينة قد تؤجل بعض المواعيد ، وقد تلغي جزءاً منها لكنها تظل تنتظره برغبة جامحة للقاء ، وبأصرار كان يحاول ما استطاع ان يلتقيها على مسافة قريبة من بعض رغم فوضاه والمدينة الواقفة على فوهة لقاء ، ويعانقان الوقت كأن لا شيء بينهما في الانتحار ، حين تتماهي فواصل الحياة وتعقيداتها وتذوب في ذروة الشوق والحنين ويكون الزمان الدائر بينهما صبياً ، وتكون المسافة مراهقة بطعم اللحظة المتوضئة بتراتيل الطهارة تداعب شفاه يقطر منها عسل الحياة ، فيعلو صوت عاشقة بشهقة الحب المكلل في صدرها ببراءة دافئة وأنوثة مكتملة الحياة ، ويصيرا بعضاً من بعض في غمرة الاشتياق العميق ، وسط اندفاع الروح لحضنها ، لتمسح عن قلبة تعب الشوق ويمسح عنها حزن الأبد .. يصيرا اسماً واحداً من اسماء المدينة الخالدة ويقتربان من الجدار أكثر ويعاندان قدر الحياة في الاغتراب .. يحضنان المسافة برغبة تهوي اليهما ويقطعان شوطاً عميقاً في الطريق الى هدف يقترب.
6
هَل ترَكتَ لها شيئاً ؟ .. نعَم ترَكتُ طرفَ حُلمٍ رسَى على جفنِها المُتعَب بالنعاس ، هكذا يقول العاشق في أرض المدينة حين يبلغ فيها صوت الحب مداه .. تسمع لهاث العاشقين في أرضها وترى وهج الحب في أطرافها يحمل بشارة الحياة ويسطع نجماً كامل الضياء في سماءٍ متلألئة الأقدار .. تكون أنت والمدينة شبحان يدخلان في بعضهما ليشاكسان الوقت حين يسكت فيك صوت العتاب .