الكاتب: د.احمد يوسف
فيما حالة الصمت والتوتر، وأجواء القلق والإحباط، تسود أوساط الفلسطينيين الذين استهدفت إسرائيل منازلهم قبل تسعة أشهر، وذلك في عدوانها الأخير على قطاع غزة (معركة العصف المأكول)، والتي ألجأت الآلاف منهم إلى مراكز الإيواء والسكن بمدارس غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، انتظاراً لتحقيق الوعود التي قطعها المجتمع الدولي على نفسه بإعادة إعمار كل ما دمرته الحرب.
وبعد ستة شهور من الانتظار والترقب لمباشرة ما تمَّ التعهد عليه في مؤتمر المانحين بالقاهرة، جاءت البشارة والخبر السار على لسان السفير القطري محمد العمادي؛ رئيس اللجنة القطرية لإعادة إعمار قطاع غزة، والذي وصل – مؤخراً – إلى غزة، حيث أعلن بأن بلاده ستقوم بإنشاء ألف وحدة سكنية ومرافق عامة وبنى تحتية، وأن المبلغ الذي تعهدت به قطر سيتم إنفاقه بالكامل على المشاريع المزمع القيام بها في قطاع غزة.
هذه واحدة من المواقف المتقدمة والبشريات التي عودتنا عليها قطر، وجعلتنا نلهج لها - دائماً - بالدعاء: شكراً قطر؛ فيك المروءة والوفاء، ومنك الخير ينهمر.
السياسة القطرية: مواقف تستحق الثناء
كلما نجحت قطر في ابداعات العطاء، والتفوق على نفسها من خلال المواقف المتميزة وأعمال الخير، وتمكنت من تصدر المشهد الإقليمي والدولي في تجلياته السياسية، كما شاهدنا في الكلمة الجريئة لوزير خارجيتها د. خالد بن محمد العطية، في مؤتمر ميونخ للأمن بجمهورية ألمانيا الاتحادية، والذي انعقد بتاريخ 8 فبراير 2015م، تحركت الألسنة المغرضة - عربياً وإسرائيلياً - للتحريض عليها، والعمل على تشويه صورتها، والتشهير بقيادتها واتهامها بأنها خادم للسياسات الأمريكية، ومنفذ لتعليمات الدول الكبرى!!
إن الذي يعرفه الفلسطينيون أن هذه الدولة ومنذ استقلالها في سبتمبر 1971م كانت من أوائل الدول العربية التي تمَّ فيها افتتاح مكتب لمنظمة التحرير، والذي تحول إلى سفارة بعد إعلان قيام دولة فلسطين في مؤتمر الجزائر عام 1988م. وعندما أنشئت السلطة الفلسطينية في عام 1994م، قام سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بزيارة للأراضي الفلسطينية في عام 1999م، والتقى في غزة بالرئيس ياسر عرفات (رحمه الله)، وقدم للسلطة دعماً مالياً ومعنوياً لا يمكننا إلا أن نشكره ونقدره عليه.
إن حملات الإساءة لقطر وجعلها في عين العاصفة، لها سببٌ يعرفه كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فهي الدولة العربية – ربما الوحيدة في الخليج - التي شبَّت على طوق التهميش والخنوع العربي، وارتفعت عالياً بقامة أفعالها ومواقفها، ولم ترضخ لضغوطات بعض دول الجوار الخليجي، والتي تبنت – للأسف - سياسات معادية لأصحاب الاتجاهات الإسلامية بالمنطقة كالإخوان وحركة حماس، وتحركت مع فلول الأنظمة الدكتاتورية لإجهاض حركة النهوض الشعبي، والقضاء على ثورات الربيع العربي أو حرف مسارها باتجاه التطرف وسفك الدماء، بهدف استنزاف طاقاتها الحيوية، وإذهاب عافيتها الحركية، والقضاء على مستقبلها السياسي بالمنطقة.
قد نكون نحن الفلسطينيون من أكثر الجهات التي أمدتها دولة قطر بالمساعدات المالية والدعم السياسي، حيث لم ينقطع وصول قوافل الخير القطرية بإمداداتها ومعوناتها الإغاثية لأهالي قطاع غزة، وذلك عبر العديد من الجمعيات والمؤسسات الإنسانية الدولية وعلى رأسها مؤسسة "قطر الخيرية" و"الشيخ عيد الخيرية"، وذلك إبان العدوان الإسرائيلي على القطاع في ديسمبر 2008م (حرب الفرقان)، وأيضاً في الحرب الأخيرة المدمرة في يوليو/أغسطس 2014م. لقد كانت الجهود الإغاثية القطرية علامة مميزة في العطاء المتواصل، وبصمات رعايتها للحالة الفلسطينية الإنسانية مجسدة في مؤسساتها العاملة في قطاع غزة، وعلى رأسها "قطر الخيرية"، والتي تقدم الدعم بشكل مستمر وبأشكال مختلفة، ويقصدها الكثير من الفقراء وأصحاب الحاجات من أهل القطاع، كما أن مشاريعها في دعم المؤسسات التعليمية والصحية هي عناوين شهادة إضافية لصدقية قطر وجديّة أميرها الشيخ تميم في نصرة القضية الفلسطينية.
كما أن دولة قطر قدمت ملايين الدولارات لكل من السلطة الوطنية الفلسطينية وأيضاً لحركة حماس، وهي ما تزال حتى اللحظة تجود ولا تبخل، في عطاءات فاقت بسخائها كل ما قدمه الآخرون من دول المنطقة، ولعل مشاريع البنى التحتية الضخمة التي ترعاها قطر في قطاع غزة، والتي تبلغ قيمتها الإجمالية حوالي نصف مليار دولار، هي خير شاهد على كرم وإخلاص هذا البلد وقيادته الوفيّة في التزاماتها تجاه القضية الفلسطينية.
ففي مؤتمر المانحين الذي انعقد بالقاهرة بتاريخ 12 أكتوبر2014م، تعهدت قطر بتقديم مليار دولار من أجل إعادة إعمار ما دمرته الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة؛ أي خُمس ما وعدت به الدول مجتمعة، وقبل هذا المؤتمر وبعده كانت عطاياها المالية لدعم ميزانية السلطة الفلسطينية، والتي لم تتوقف بهدف فك ضائقتها الاقتصادية والمعيشية، وذلك بتسهيل دفع رواتب موظفي الحكومة، التي كانت تديرها حركة حماس، كما أن قطاع غزة المثقل بأعباء المعيشة ونقص الكهرباء ما تزال قناديله تسرج بإمدادات الوقود القطري أو المنح المالية لدعم شبكة الكهرباء في القطاع.
كما تجدر الإشارة كذلك إلى الجهود التي قامت بها قطر مع المجتمع الدولي، وذلك من خلال التنسيق مع السويسريين لدفع منحة مالية لموظفي الحكومة السابقة في قطاع غزة، بهدف إنجاح المصالحة الفلسطينية، وتخطي العقبات التي تعيق تحقيقها.
كاميرا الجزيرة: الشاهد على جرائم الحرب الإسرائيلية
منذ أن انطلاق فضائية الجزيرة في عام 1996م ودولة قطر في دائرة الاستهداف والحسد السياسي، وذلك لاعتبارات وأسباب لا تخفى على أحد من شعوب المنطقة ونخبها السياسية، حيث غدت واجهة المستضعفين والمضطهدين لتوصيل رسائلهم للعالمين، وهي السيف المسلط على رقاب الأنظمة المستبدة والحكام الظالمين.. إضافة لذلك، فهي تتصدر عملية الدفاع عن المظلومية الفلسطينية، حيث إن شبكة الجزيرة الفضائية تضع فلسطين - الشعب والقضية - على رأس اهتماماتها؛ والجزيرة القطرية هي اليوم الشبكة لإعلامية الأوسع انتشاراً على المستوى العالمي، والتي تبث بأكثر من ثلاث لغات، وتتمتع بمصداقية ومهنية عالية تجعلها القناة الأولى بالمنطقة العربية، وأيضاً لها درجة من الصدارة حتى على مستوى المحطات الأجنبية والتلفزة العالمية.
لقد أعادت قناة الجزيرة كتابة التاريخ الفلسطيني، وإحياء مشاهده النضالية، وبعث صفحات الهجرة واللجوء بمآسيها وكأنها وقائع اليوم، وتقديم القضية بتظهير صورة الفلسطيني الضحية، واعتماد روايته التي حاولت إسرائيل طمسها عبر ماكينتها الدعائية لأكثر من ستة قرون.. إن قناة الجزيرة بإمكانياتها الإعلامية الهائلة حفظت للقضية مكانتها في وجدان العالم وذهنية شعوب المنطقة، بحيث ظلت في موقع العقل والوجدان العربي والإسلامي القضية المركزية للأمة، والتي يشعر معها كل مسلم بأنها قضيته الوطنية والإنسانية الأولى.
إننا لا ننسى حالة التميز والإبداع للتغطية التي قامت بها الجزيرة إبَّان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حيث تفوقت الجزيرة في تقاريرها الميدانية وبثها الحي والمباشر من مواقع المواجهات على كل الفضائيات المحلية والعربية والدولية، وكانت أحد أعمدة التمكين لصمود أهلنا وفضح جرائم الاحتلال، وكان لتغطياتها المتميزة للمجازر التي وقعت في غزة وشهادات الضحايا التي التقطتها عدسات مراسليها كبير الأثر على التقرير الأممي (تقرير جولدستون) والذي أدان إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية.
إن فضائية الجزيرة القطرية ما تزال هي صوت الضحية الفلسطيني، والذراع الإعلامي القوي لتظهير حقوقهم عالمياً.. إن هناك جهوداً إعلامية وتقارير استقصائية أعدتها الجزيرة حول الحرب العدوانية الأخيرة عل قطاع غزة، وجمعت فيها شهادات مئات الضحايا، وسجلت بمهنية عالية مشاهد المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في الأحياء الشرقية والشمالية من قطاع غزة، وهي ستشكل عند نشرها فظاعة الجرائم الإسرائيلية وبشاعتها، والحجم الكبير من الانتهاكات للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
السياسة الخارجية القطرية: فلسطين قضية لا تغيب
وفي المحافل الدولية لم تغب قطر عن حمل همِّ القضية الفلسطينية؛ سياسياً وإنسانياً، وقد تابعنا ذلك في مسيرة سياستها الخارجية، حيث كانت دائماً خير من يدافع عن حقوق الفلسطينيين، ويتحرك نصرة لهم. ويكفينا هنا الإشارة فقط إلى موقف سمو الشيخ تميم في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي انعقدت في نيويورك في سبتمبر 2014م، حيث وجه سموه في كلمته انتقادات واسعة لإسرائيل، متهماً جيشها بارتكاب جرائم حرب وجرائم بحق الانسانية، كما أنه أشاد بالمقاومة وحيَّا صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ودعا لإصدار قرار تحت الفصل السابع لإلزام إسرائيل بإنهاء احتلال عام 67.. ويمكننا هنا أيضاً استدعاء الموقف المتميز لوزير الخارجية القطري، د. خالد بن محمد العطية في مؤتمر ميونخ للأمن، حيث رفعت قطر صوتها عالياً، وهاجمت السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين وحركة حماس، وذلك بجرأة لم نرها على ألسنة كل من شارك في ذلك المؤتمر من الدول العربية والإسلامية.
ففي الجلسة الختامية من أعمال المؤتمر، حدث تلاسن بين وزير الخارجية القطري د. خالد العطية، ووزير الاستخبارات الإسرائيلي يوفال شتاينتز، حيث حشر رئيس الدبلوماسية القطري الوزير الإسرائيلي في زاوية ضيقة، مفحماً إياه بردود قوية دحضت مزاعم عدة حاول يوفال تمريرها أثناء جلسة نقاش حادة عن مستقبل الشرق الأوسط.
لقد ألجمت إجابات د. العطية خصمه الإسرائيلي من الرد، حيث التزم على إثرها الصمت من دون تقديم إجابة شافية.. في الحقيقة، لم يحدث أن تعرض مسؤول إسرائيلي بارز لموقف مشابه منذ فترة طويلة، الأمر الذي جعل المشاركين في المؤتمر من مسؤولين دوليين متابعة المناظرة باهتمام ملحوظ، كما أنهم لم يقتنعوا بردود الوزير الإسرائيلي، والذي حاول - يائساً - الربط بين حركة حماس والإرهاب والدعم القطري للحركة.
ومن الجدير ذكره، أن د. العطية قد أكد على أن قطر تدعم المكتب السياسي لحماس، وأنها توفر لقيادة الحركة اللجوء بشكل علني وواضح، كما نفى بشدة أن تكون حماس منظمة إرهابية، مؤكداً على أنها تمارس حقاً مشروعاً؛ وهو مقاومة عدوان إسرائيلي غاشم، خلَّف آلاف الضحايا، ودمر مناطق بأكملها، ولم يستثن أي أحد. وأشار وزير الخارجية القطري إلى أن الاحتلال الإسرائيلي هو المسؤول عما يحدث من فوضى، وذلك عبر تجاوزاته وحصاره المفروض على قطاع غزة، وكذلك من خلال عرقلته لكل جهود السلام الدولية من دون أي رادع يوقفه.
وأعاد المسؤول القطري تذكير الحاضرين بالعدوان الإسرائيلي المتكرر على القطاع، والانتهاكات السافرة التي يقوم بها جنوده والمتطرفون اليهود على المسجد الأقصى وانتهاك حرماته، مشيراً إلى أن هذه الممارسات هي التي يجب أن تكون محل انتقاد وليس الدفاع الشرعي عن أرض وكرامة يجب أن تكون مصانة وفقاً للقرارات الدولية. وأكد د. خالد العطية في مداخلته بأن إسرائيل حينما تطالب بالأمن فإنه يجب عليها أن تتوقف هي أولاً عن الممارسات الإرهابية، وبالتالي سيحل السلام بالمنطقة وتتوقف كل أشكال الدمار.
واستطرد موضحاً: إن حماس بالنسبة لنا ليست جماعة إرهابية، وأن لديها توجهين اثنين؛ اجتماعي وسياسي، كما أن هناك توجهاً أهم وهو أنها حركة مقاومة.. وأشار موجهاً كلامه إلى الوزير الإسرائيلي، قائلاً: "إذا تخليتم عن احتلالكم فإن حماس لن تقاتل، إنها في الواقع حركة مقاومة". وأضاف مفنداً الاتهامات الموجهة إلى قطر بدعم الإرهاب، قائلاً: “إننا لا ندعم الاٍرهاب.. وبالنسبة لعملية السلام وما تقومون به لإنشاء دولة يهودية بالقوة، أقول: إن العالم - الآن - يحارب جماعة تطلق على نفسها الدولة الإسلامية، وأنتم تأتون – اليوم - للتحدث عن دولة يهودية.!!
وأكد العطية للوزير الإسرائيلي إلى أنه من الواجب أن تدعم بلاده أولا الجهود الدولية من أجل إحلال السلام، وذلك حتى يعيش الجميع في سلام، وهذا حسب المبادرة العربية.
لقد شغل الملف الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي والجرائم المرتكبة بحق المدنيين في الأراضي المحتلة حيزاً هاماً من اللقاءات التي عقدها د. العطية، وذلك على هامش أعمال المؤتمر، وأكد خلالها على ضرورة تحرك المجتمع الدولي للجم آلة القمع الإسرائيلي، والعمل على فك الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني.
إن هذه النبرة القوية لم نسمعها من أحد من جهابذة العرب الذين شاركوا في المؤتمر الأهم على الساحة الدولية، لقد خرست ألسنتهم ورماحهم، في حين كان الموقف القطري يتحدث بلهجة الفارس المقدام، وقالها بقوة: "أنا ابن جلا وطلاع الثنايا"، مدافعاً عن الحق الفلسطيني ومندداً بالاتهامات الإسرائيلية لحركة حماس.
لقد قالوا قديماً: إن الخيول المخصيّة لا تصهل، وإذا كانت هذه هي حال معظم العرب، فإني أشهد بأن قطر أثبتت بتلك المواقف الدعمة للقضية الفلسطينية أن خيلها على غير حالة الخيول العربية بالمنطقة، فهي لا تتوقف عن رقصة المجد والصهيل.
ختاماً: قطر أهل الجود والكرم
إن قطر بأميرها السابق سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني كانت يد الخير التي لم تبخل أو تتردد بعطاء، ثم جاء أميرها الابن سمو الشيخ تميم، وكان كالريح المرسلة في دعمه للفلسطينيين، حيث "أندى العالمين بطونَ راحٍ"؛ جواداً كريماً على خطى والده ونهجه القويم، وذلك في مشاعره الإنسانية، ومواقفه القومية، ومآثره المتميزة تجاه الشعب الفلسطيني المكلوم.
سنظل كفلسطينيين نقول دائماً: شكراً قطر.. شكراً للمواقف والسياسات وأفعال الخير.. شكراً لهذا الغيث المنهمر، حيث لا يذهب العرف أو يضيع المعروف بين الله والناس.
لن أنسى ذلك الموقف الكريم لأمير قطر السابق سمو الشيخ حمد عندما التقيته في الديوان الأميري كمستشار لرئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية في يوليو 2006م، وحدثته عن أوضاع غزة والمعاناة التي يمر بها أهلها جراء سياسات الحصار الإسرائيلي، وتراجع الدعم العربي، وإغلاق المعابر، فما كان منه إلا أن أحضر ورقة وقال سجل بها كل ما تحتاجونه منا من طلبات، ونحن سنبذل من طرفنا ما نستطيع – إن شاء الله – للتخفيف عن أهل غزة. وشهادة لله وللتاريخ، أن كل ما تقدمنا به ودوناه في ذلك السجل قد تمَّ الوفاء به وأكثر. لذلك، سنظل نلهج لهم بالدعاء، ونغرد دائماً بالقول: شكراً قطر.