نشر بتاريخ: 13/03/2015 ( آخر تحديث: 13/03/2015 الساعة: 22:32 )
الكاتب: المتوكل طه
رام الله- معا - المخيم– كوحدة اجتماعية واقتصادية وسياسية وبالتالي أصبحت ذات ملامح ثقافية– يتصّدر الكلام ، من سوريا إلى لبنان إلى هنا، ويأخذ الكلام كله. فالمخيم كإفراز ونتيجة للنكبة والنكسة أصبح هو المعوَّل عليه، بمعنى أنه وقعت على أبنائه وأجياله المتعاقبة أن يتحملوا ويحملوا الرسالة، وأن يجعلوا الشعلة مضاءة وعالية. ووقع المخيم– نتيجة لذلك- بين شفرات الُمطلق وشفرات النسبي، ما بين متطلبات الثورة وفضائها ومتطلبات الواقع وضيقه. المخيم الذي يقع في منطقة الرماد في كل شيء جغرافياً– بكونه قريباً من المدينة ولكنه ليس منها– وثقافياً- باعتباره غريباً عن النسيج الاجتماعي وممنوعاً من الاندماج فيه– واقتصادياً– باعتبار أن موارده تأتي جاهزة وهو ممنوع من الانخراط في الدورة الإنتاجية– وسياسياً– باعتباره ممنوعاً من المشاركة والتمثيل والانتخاب– كل ذلك جعل من المخيم ينقسم على ذاته، ويدخل في متاهاتٍ من التعريف وإعادة التعريف، الثورة كانت حَلاً ولكنها ليست كل الحلول، خاصة بعد انكفائها.
المخيم– وهو وضع استثنائي في تطور المجتمعات وسلوكها– منقسم على ذاته لأنه موزَّع بين الانتماءات وموزّع بين الولاءات وموزّع بين الأمكنة. ومرّة أخرى، المنفى ليس مكاناً وحسب، المنفى تجربة مهيظة وقاسية، وفي الوقت الذي يجبر فيه اللاجئ على تعريف نفسه بقوة وتطرف، فإنه- أي المنفى– قادر على إجبار اللاجئ أو إقناعه بفقدان هويته أو التخلي عنها طواعية. المنفى قاسٍ وقاطع كحدّ السيف، وبما إنَّ المخيم باعتباره ليس أفراداً وإنما وحدة اجتماعية وسياسية خاصة، فإنَّ الفلسطيني اللاجئ أُجبر– كرهاً أو طواعية – على أن يحدد انتماءاته وخياراته. ولكن، وفي الوقت ذاته، فإن القضية الفلسطينية ليست قضيتنا فقط، وعليه، فإن المخيم يتعرض لكثير من الإغراءات أو الإجراءات أو الآليات التي تزيد من عدم قدرته على التحديد أو حتى الاختيار، خاصة بعد أن انكفأ المدّ الثوري والقومي، ولا نقول انهزم.
المخيم الصامد مخزون الثورة الاستراتيجي، حامل المشعل، وشاهد المرحلة، ومُعلم الأجيال، ومُعلم الأيام أيضاً، الذي طور له لغةً خاصةً ومصطلحات خاصة، وقسّم فئاته وأعاد ربط ما انقطع، وسمّى الأشياء من جديد، وأرغم المدينة ومن ثم القريب والغريب على الاعتراف به والتعامل معه، هذا المخيم كان لزاماً عليه أن يصطدم بما حوله، شاء أم لم يشأ، الثورة خيار صعب، وهي خيار مجنون ولا عقلاني، أيضاً، الثورة وجدان، والثورة لا حسابات منطقية فيها– ومتى كانت كذلك يوماً؟– وعندما اختار المخيم اصطدم بما حوله سريعاً، ومن هنا تعلم المخيم أن يكون متوجساً وشكاكاً ولا يثق، وإذا كان المخيم أرضية خصبة وطبيعية للمشاعر القوية ضد إسرائيل، فإنه طور، أيضاً، مشاعر متناقضة تجاه المحيط الذي يحيا فيه هذا المخيم المعزول والممنوع والفقير والذي يحيا بمنطقة الرماد في كل شيء، طوّر عقلية خاصة، هي عقلية اللاجئ، وهي عقلية متوجّسة وشكاكة وقريبة من الإيمان المطلق دائماً، عقلية اللاجئ ليست فيها تسويات كثيرة، وهي أقل جدلاً وأقل رغبة في الكلام، هي عقلية تحيا على حافة القبر، ليس أسوأ من المنفى، وليس أسوأ من النكران، وليس أسوأ من الفقر.
المخيم لم يعد يزعج إسرائيل، فقط، المخيم قنبلة سياسية- صحيح إلى حد كبير- لكنه أيضاً قنبلة اجتماعية. إن أذكى الأنظمة التي تحاول السيطرة على المخيم أو تذويبه أو دمجه أو تحويله من نارٍ تَحرِقُ إلى نار يُطبَخ عليها لم تصل إلى نجاح أكيد ونهائي. مرة أخرى، المخيم لم يعد يزعج إسرائيل فقط، ومن هنا، فإن حل القضية الفلسطينية أولوية عربية، ليس فقط من منطلقات سياسية وأخلاقية وأمنية، وإنما من منطلقات اجتماعية صرفة. ولا أقصد هنا في الحديث أن يتحرك المخيم كله باتجاهٍ معين، بل يكفي أن يكون هناك "عَبْسِيٌّ" واحد ليدمّر المخيم أو ليثير المحيط ويدمّره. ولا أريد أن أسترسل في الأمثلة التي تؤكد الكلام إلى حدٍ كبير، أو على الأقل لا تنفيه.
يجب الاعتراف بقوة وصرامة بأن المخيم مشكلة اجتماعية وصحية، وحتى لا نُفهم خطأ– بنيّةٍ حسنةٍ أو غيرِ حسنة– فإن المخيم يجب أن يزول ويختفي عن الوجود لأن سكانه يجب– وهنا أكتب "يجب" بخط كبير وألفظها بملء الفم– أن يعودوا إلى ديارهم وأوطانهم التي هُجّروا منها، هذا هو واجب الناس الآن، وواجب الأجيال المقبلة، أيضاً، ومن ينسى هذا الحق أو يفرط فيه فإنه عملياً يقبل أن يأتي الأثيوبي إلى فلسطين ويأخذ كامل الحقوق، فيما يُحرَّم على امرأة فلسطينية أن تعود إلى وطنها لتعيش مع زوجها وأطفالها– اقرأوا قانون العودة الإسرائيلي للعام 1952 و1972 والتعديلات التي أجريت عليه في الثمانينيات والتسعينيات لتروا مدى العنصرية ومدى الاستعداد القانوني لمنع العرب الفلسطينيين من البقاء في أوطانهم-.
ولكن، وبعد تأكيد هذا الحق بما لا لبس فيه، فإن المخيم الذي يحيا اليومي والنسبي ومتطلبات الحياة اليومية مِن أكلٍ وشربٍ وتعليمٍ وصحةٍ وعملٍ وتأميناتٍ اجتماعيةٍ وصحيةٍ وأشكالِ سلوكٍ متغيرةٍ ومرتجلة، هذا المخيم الذي يعيش على المطلق ولكنه مضطر إلى التعامل مع النسبي، يتحول شيئاً فشيئاً، خاصة بعد اتفاق أوسلو وتغيّر العالم ونجاح العولمة وانكفاء الثورات وتراجع الشعارات وخفوت الأصوات عن العودة أو مضامينها الحقيقية، إلى مشكلة وعبء حقيقي، ليس على السلطة الوطنية وحسب، وإنما على الأنظمة التي تعيش فيها تلك المخيمات. لا يمكن حسم المخيم في نهاية الأمر. عقلية اللاجئ الذي يحيا على الأحلام ويضطر إلى البحث عن لقمة الخبز ستطور سلوكاً غير متوقع، هذا الكلام يعني ببساطة أنّ إسرائيل وغير إسرائيل مجبرون على حل القضية الفلسطينية، فالهزيمة، حتى وإن توالت، لن تؤدي إلى خلق علاقة غرامية مع المحتل، والفقر والنكران لن يحولا المجروحين إلى قديسين يدعون إلى محبة العدو الذي نقدم له الخد الأيمن ليصفعه. ومهما بدا الكلام قاسياً، ولكني أرجو أن يُفهَم بواقعيته وأهدافه البعيدة، فأنا عملياً أُلوّح بالقدرات التي رأينا بعضها وتلك التي لم نشاهد بعد، والتي يمكن للمخيم أن يجترحها ما لم تُحلّ القضية الفلسطينية، وبعيداً عن فذلكات الأكاديميين ورغبتهم في الوصف والتبويب والفهرسة ومن ثم الاستخلاصات، فإن المخيمات التي تصبح عناوين للبلاد والثورة والحنين تتحول بفعل الزمن إلى مواطنين من درجةٍ أقل، ويحصلون على حقوق وواجبات أقل، أي أن جُرح الطرد يضاف إليه جرح النكران والتهميش، وكأنّ حالة اللجوء هي حالة مشبوهة أو مدانة أصلاً. إنَّ وضعاً كهذا– وإن استمر بشكل أو بآخر، وإن تمّ استيعابه بشكل أو بآخر، وإنْ تمّ تدجينه بشكل أو بآخر– لا يمكن له أن يستمر. إن بيت الصفيح ليس أفضل حالاً من خيمة 1948، وإن معونات وكالة الغوث التي تتناقص سنة بعد سنة لن تكون بديلاً عن أحلام عريضة، وإن التطامن أو السكون أو الخضوع لأوامر المحيط وقوانينه لن تسود إلى الأبد، خاصة إذا توالت عمليات التنازل والتطبيع المجاني وقبول إسرائيل بالكامل دون إيجاد حل لأكثر من خمسة ملايين فلسطيني موزعين ما بين بيوت صفيحية أو صحارى بعيدة أو مجاهل لا يصل إليها البريد.
وكلما تقدمنا في الزمن، فإن مشكلة المخيم– متعددة المستويات ومعقدة التجليات– تزداد وتتفاقم، ليس فقط بسبب الآلية الخاصة بتطور المخيم وتعدد خياراته، وإنما أيضاً– وبالدرجة ذاتها من القوة– بسبب أزمة أو أزمات الأنظمة التي تعيش ضمن حدودها تلك المخيمات.
إنّ الأنظمة التي تعيش أزمات مختلفة تتعمق يوماً بعد يوم، وهي أزمات اقتصادية وسياسية، ولبنان يعطينا مثالاً مناسباً فيما يمكن للمقدمات والنتائج أن تكون. إن تجسد السلطة الوطنية في الضفة والقطاع– أو في الضفة فقط في هذه الأثناء– لم يساعد حتى اللحظة في حل ضائقة المخيم، بل على العكس من ذلك، إذ إن تجسد السلطة الوطنية بدا كأنه حل نهائي لموضوع المخيم، ومن هنا ازدادت حدة الموضوع، وزاد ضغطه الشديد على الوعي والوجدان، فهل ينتظر سكان المخيمات منفى أبدياً، أم تجنيساً أم توطيناً أم تعويضاً أم عودة مجزوءة.
هذه الأسئلة لم تكن في الماضي، وهي الآن حاضرة بقوة، الأمر الذي يزيد من حدة المسألة وتطرفها، ونحن هنا نتحدث عن عقلية اللاجئ– واللاجئ ليس مهاجراً ولا مغامراً ولا مستوطناً- وقلنا إنها عقلية تطرّف أكثر منها عقلية مهادَنة، وعقلية تُبدي ما لا تُعلن، وإن تهديد المخيم بخيارات متعددة ومختلفة ضمن أزمات متلاحقة وضغوطات من جهات متعددة، كل ذلك يدفع الأمر إلى عنق الزجاجة. وإذا كانت النكبة، ومن بعدها النكسة والهزائم والأزمات ثم التفتيت والانقسام، قد أضرّت بالمخيم، فضُرب وعُذِّب وحُوصر، فإننا الآن على أبواب مرحلة جديدة، تُقَْبَلُ فيها دولة الاحتلال وتنشأ معها العلاقات ، وتتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ، ويتعرّض المخيم إلى استقطابات حادّة جديدة تجعله يغرق بوحله أكثر فأكثر! .. فالأمر شديد خطير، وعلينا الانتباه!