السبت: 23/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

غياب حيفا من الوجدان الجمعي الفلسطيني

نشر بتاريخ: 17/03/2015 ( آخر تحديث: 17/03/2015 الساعة: 11:15 )

الكاتب: د.طارق الحنفي

يشكل التاريخ الإنساني موسوعة من التجارب الإنسانية، التي يرتقِ البعض منها إلى التجارب العظمى-الكبرى، والتي عادة ما تؤدي إلى إحداث تغيرات تمس الخاص والعام. بلا شك أن أبرز هذه التجارب كانت تلك المتعلقة بنبوءة الوحي للرسل المختلفين، والثورة الفرنسية وما أفرزته من إعادة بناء لمفهوم الإنسان في العقل الكوني، وفي علاقة هذا الإنسان مع المحددات التي تتمخض عن الإنتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، بما في ذلك بروز سلطة عامة تدعي الإحتكار لمصادر العنف في طريقها نحو فرض النظام كوسيلة لا غنى عنها لتحقيق رفاهية المجتمع.

الثورة الفرنسية قامت بإعلاه قيمة الفرد كشرط مسبق لإعلاه قيمة المجتمع ( أي إعلاه قيمة "الواحد" مقابل "الكل" لمصلحة "الكل") ، قامت الثورة البلشفية في 1917 في إعلاه "قيمة "الكل" على حساب "الواحد"، أيضا كشرط أساسي لتحقيق رفاهية المجتمع. بعيداً عن الإنتماء الأيديولوجي لمنظومة القيم التي أفرزتها كل تجربة (سواء كانت المنظومة الليبرالية التي افرزتها الثورة الفرنسية، او المنظومة الإشتراكية التي أفرزتها الثورة البلشفية)، فان أقل ما يمكن به وصف هاتين التجربتين هو "الاحداث العظمى-الكبرى" التي تمس الخاص والعام، أي تٌحدث تحولات عميقة في الوجدانين الخاص والعام. رغم ذلك، بقت الحقوق والحريات (سواء كانت مدنية وسياسية "الثورة الفرنسية"، أو إقتصادية وإجتماعية "الثورة البلشفية") ذات طابع إقليمي محدد، يقتصر التمتع بها على حاملي "الوطنية" الفرنسية والسوفياتية (مع عدم إنكار مدى تاثير القيم اللتي أفرزتها الثورتين على الفكر الإنساني على المستوى الكوني). 

في القرن العشرين ظهر حدثتان كونيين اعتبرا أيضا من التجارب العظمى. نتحدث هنا عن الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين أديتا إلى إعادة النظر في العديد من القضايا التي تمس الفرد، والمجتمع، ومن بينها كيفية تأصيل علاقة الفرد بسلطته الوطنية في إطار منظومة قانونية ذات طابع كوني وليس وطني (كما حال الثورتين الفرنسية والبلشفية). المنظومة القانونية الكونية هذه ستسمى لاحقا منظومة حقوق الإنسان، التي ستفرض نفسها (على الاقل على المستوى الأدبي) كواحدة من أبرز القيم الإنسانية التي تُعلي شأن الفرد في مقابل السلطة على المستوى الكوني. الحربين العالميتين الأولى والثانية كانتا من أبرز الأحدث العظمي ذو الطابع السلبي في التاريخ الإنساني، لكنهما أفرزتا واحدة من أكثر المنظومات القانونية الكونية أهمية حتى الوقت الحالي، وهي منظومة حقوق الإنسان. الدرس المستفاد من هاتين الحربين أن "الاحداث السلبية" في التاريخ الإنساني قد تكون أحد الديناميات الضرورية لإعادة تشكيل الفكر الإنساني بإتجاة فكرا أكثر إنسانيةً.

داعبت منظومة حقوق الإنسان الكونية أحلام المضطهدين، خصوصا أولئك الذين يخوضون عملية تحرر وطني، كثيراً، وأعتبرها البعض منظومة الخلاص من الظلم والإضطهاد، خصوصا بعدما أعلنت هذه المنظومة عن حق كافة الشعوب في تقرير مصيرها. تمأسس الحق في تقرير المصير في الثقافة الكونية، وخصوصا في ثقافة الشعوب التي تخوض عملية التحرر الوطني، كحق يتعلق بـ "الكل"، اي بأي مجموعات قومية، وطنية، أو عرقية، تسعى لنزع إعتراف "الأخر" بها كمجموعة لديها القدرة الذاتية على إدارة شؤون نفسها بإستقلال، بعيدا عن تدخل هذا "الاخر" في عملية الإدارة تلك، أو فرض إملاءاته عليها. في بعض الاحيان، لجأت بعض هذه المجموعات الي العنف لوسيلة لنزع هذا الإعتراف (الثورة الجزائرية على سبيل المثال)، في أحياناً اخرى، لجأت إلى "المقاومة السلبية ذات الطابع السلمي" (ثورة غاندي). النموذج الجزائري نجح في إنهاء الإحتلال الفرنسي، كما نجح النموذج الهندي في الحصول على الإستقلال. القاسم الرئيسي بين الإحتلال الفرنسي والبريطاني ان كلاهما إستهدف الثروات، قطاع المؤسسة، السياسة، ومكونات الثقافة، للمجتمعين الجزائري والهندي. جمعيها شكلت حقوقا واضحة في المنظومة الكونية لحقوق الإنسانية. وعليه كان المزاج الدولي العام داعماً لعملية التحرر التي خاضتها تلك الشعوب، بل اعتبر المزاج الدولي العام غاندي تحديدا كواحد من صناع التاريخ الحقيقيين.

على خلاف الشعبين الجزائري والهندي، ما زال الشعب الفلسطيني يخوض واحدة من أعقد وأصعب عمليات التحرر الوطني التي شهدها التاريخ الإنساني. إصطدم الشعب الفلسطيني منذ مطلع القرن المنصرم بطموحات عنصرية (سمُيت من قبل "الإستشراق الغربي" بـ "طموحات قومية") لواحدة من أبشع وأقذر الحركات السياسية التي شهدها تاريخنا الإنساني وهي الحركة الصهيوينة. لم تكتفٍ هذه الحركة بإستهداف المصادر الإقتصادية، وإقتلاع السكان الأصليين من أراضيهم في ظل مباركة، بل تواطء، القوى العظمى أنذاك(تحديدا بريطانيا ولاحقا الولايات المتحدة الأمريكية)، بل سعت، وبشكل حثيث إلى طمس الشخصية الفلسطينية بكافة مكوناتها الثقافية. حاربت تلك الحركة الثقافة الفلسطينية، بما في ذلك المأثور السياسي والإجتماعي، الأدب، ألاغنية، الشعر، التعليم، المؤسسة، وحتى مصادر المعرفة. 

الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته وقف بشراسة وصمود أمام تلك المحاولات، ونجح (بإمتياز) في إفشال معظمها. هذا النجاح إستمر منذ مطلع القرن المنصرم حتى بدايات العقد الأخير من القرن نفسه (حتى 1993). نجاح الشعب الفلسطيني لم يكن مرده إلا غياب "المؤسسة السياسية النخبوية" الشبيهه بمؤسسة الدولة، وإعتماد عملية النضال الفلسطيني على الوجدان الجمعي للشعب الفلسطيني كمحرك وكمغذي لعملية الصمود أمام تلك المحاولات. لم يكن ذلك الوجدان يعترف بأي تمايز بين فلسطينيي الأرض المحتلة وفلسطينيي الشتات...او بين فلسطينيي الضفة الغربية، وفلسطينيي قطاع غزة. كانت هويته فلسطينية-قومية، ترى في هموم الضفة امتدادا لهموم الشتات، مرورا بهموم قطاع غزة. 

فجاة وبدون مقدمات افاق الشعب الفلسطيني على إتفاق سياسي يمنحهم سلطة إدارية على جزء من أراضي الضفة وقطاع غزة (اوسلو في العام 1993). أدُعي في ذلك الوقت ان هذا الإتفاق سيمنح الشعب الفلسطيني سلطة مؤقتة تمهيدا للحصول على الإستقلال الكامل بما يتمخض عن هذا الإستقلال من دولة مستقلة. كان لإسرائيل رأي أخر، ورأت في الاتفاق الخيار الامثل لنسف الوجدان الجمعي الفلسطيني الذي نجح في الوقوف امام كافة محاولاتها العنصرية على مدار القرن المنصرم...بدا مشروع النسف لهذا الوجدان بترتيبات مؤسساتية واجتماعية تزامنت مع مشروع أوسلو. 

الخطوة الاولى كانت بفصل وجدان فلسطيني الأرض المحتلة عن فلسطيني الشتات (لاحظوا انه ومنذ انطلاق اوسلو بدانا نميز انفسنا كلفلسطيني الارض المحتلة عن العائدين الذين تمتعوا برزمة من الإمتيازات منحتهم إياه إتفاقيات اوسلو تميزهم عن فلسطيني الارض المحتلة. تذكروا مثلا، كيف كان بإمكان العائدين المقييمين في الأرض المحتلة إستقدام سيارات خاصة معفأة من الجمارك، وغيرها من الإمتيازات التي جعلتهم لدى الوجدان الجمعي لفلسطيني الارض المحتلة رمزاً للفساد). لم تكتفٍ إسرائيل بذلك، بل امعنت بمخططها هذا، مستغلةً أخطاءً إدارية وسياسية لدى السلطة الناشئة، وساهمت في تعزيز هذه الأخطاء وتعميقها من خلال تقييد تلك السلطة بإتفاقيات مرحلية أقل ما يمكن وصفها أنها مذلة، وتساهم في فصل هذه السلطة عن مجتمعها (تذكروا إتفاق واي-ريفر الإنتقالي في العام 1997، وما تمخص عنه من إلتزامات على السلطة تتعلق بإستهداف كافة القوى المجتمعية المعارضة لإتفاق اوسلو تحت مظلة محاربة الإرهاب). 

عُزلت السلطة عن حاضنتها المجتمعية (الشعب الفلسطيني في الارض الفلسطينية المحتلة)، وبرزت قوى مجتمعية وسياسية تعبر عن تذمرها الدائم من أداء السلطة وملف حقوق الإنسان في ظل حكم هذه السلطة. لم تتدخل إسرائيل بذلك، بل خلقت البيئة المحفزة لتصعيد حالة الاحتقان هذه بين السلطة ومجتمعها من خلال الإستعانة بأدوات محلية (بعضهم كان قادة لدى السلطة) كان دورها تعميق الفساد والإنتهاكات لحقوق الإنسان. إغتنمت القوى المعارضة لأوسلو الفرصة لتصعيد حملتها الإعلامية ضد المشروعية الأخلاقية لهذه السلطة، وانتهى الامر بقيام بعض هذه القوى باللجوء للعنف للسيطرة على بعض مؤسسات هذه السلطة في قطاع غزة (في العام 2007). 

لم تدرك تلك القوى أو غيرها، تداعيات هذا الفعل على مسالة ترابط الوجدان الجمعي لفلسطيني الأرض المحتلة. منذ ذلك الحين بدانا نتحدث عن وجدانين جمعيين مختلفين للضفة وقطاع غزة. في قطاع بدا هذا الوجدان باحثاً عن مخرج لحصاره المستمر، عن وقف للإعتداءات الإسرائيلية العسكرية المستمرة، وعن هوية وجدانية حتى المستوى الفردي. في الضفة الغربية، بدأ الوجدان باحثاًعن طريقاً التفافيا يعفيه عبء المعاناة على الحواجز الإسرائيلية، وعن مصادر لتعزيز صمودة أمام الجرافات الإسرائيلية التي تصادر أرض، وتدمر أشجار زيتونة. للأسف الشديد بدأ وجدان غزة متهكماً على وجدان الضفة باعتباره أقل معاناة منه، وبدأ وجدان الضفة في حالة اغتراب عن وجدان غزة باعتباره أقل في درجات التطور الحضاري. بين هذا وذاك، أصبح الوصول لـ "حيفا" ضربا من المستحيل، وبدأ الوجدان الفردي باحثا عن ذكرى..فقط ذكرى... تٌعيد له حيفا....والان وبعد هذا التراشق المتجدد وتبادل الاتهامات بين سلطتي غزة ورام الله أصبحت حتى عملية البحث عن هذا الذكري شاقة وغير مجدية أيضا....