الكاتب: تحسين يقين
فاجأني الكاتب بنهاية قصته الصغيرة!
كان ذلك قبل 15 عاما، كانت أمي تملأ البيت حنانا وروعة، وفي ذلك المساء حينما عدت رحت أنادي عليها، فردّت، لكنني بقيت أنادي، فردت للمرة الثانية والثالثة، فقبلتها مسرورا بها.
وصارت لديّ عادة بأن أستمر بالمناداة عليها، سعيدا بنطق "يما هي يما"، فاستغربت مرة لأنها اكتشفت أنني أقصد تكرار النداء:
- طب ليش يما بتنادي؟
- ..................
وابتسامة هروب!
وبقيت على عادتي في نداءاتي عليها، لدرجة أنها تساءلت لماذا أنادي، فموهت الإجابة.
فسرّت أختي الكبرى الحاجة نعمة ذلك بأنني أحب أمي، وبأنني أحب نطق "يما"، قائلة "ما في أغلى ولا أحلى من قولة يما".
لم أكف عن عادتي بتكرار النداء، إلى أن كان مساء جميلا بحضورها العذب، فاقتربت مني وبادرتني بالقول مبتسمة في حزن: تخاف يوم تيجي وما تلاقيني!
- سلامتك يما، طولة العمر.
وأظنني حدثتها بقصة ذلك الكاتب القروي من لبنان الذي أقام في بيروت، وصار يزور ضيعته زيارات مستمرة ثم صارت متقطعة فقليلة، إلى أن صعد درجات البيت يوما!
وبقيت أنادي حتى يوم الوداع الأخير، كل ما أذكره أنني قلت "يما".
وكنت أعود إلى نص الكاتب اللبناني إميل يوسف عواد في مجموعته "سنابل القمح" الذي كان بعنوان "ضيعتي"، والذي عبّر فيه عن حنينه لضيعته، ولأمه، حيث بعد بوحه بشوقه للقرية، يصف لنا دخوله لها، وألفته معها رغم طول البعاد، وحواره مع عجوز تسعينية إلى أن قال: "وغبت أنا بين الأشجار، ووصلت إلى بيتنا ألهث. صعدت الدرج العتيق، وقد طلعت من شقوقه الأعشاب. تلمست حجارة بيتنا وكدت أنادي:
- أمي، افتحي لي الباب"
شكل عمارة بيت الكاتب القرويّ اللبناني يشبه حسب الوصف الموجود في القصة بيت جدي وجدتي المرحومين الحاج حسن عبد الله والحاجة سارة وزوجة سيدي المرحومة الحاجة حمدة. ولما كانت أمي رحمها الله تتردد كثيرا على دار سيدي حسن وستي سارة من أجل خبز الطابون، فقد مرّت بتجربة الكاتب نفسها، فكأنني تخيلتها تصعد الدرج وتنادي على أمها.
كانت أمي تردد كلمات من الأغنية المشهورة للمرحومة فايزة أحمد "ست الحبايب"، وعلى مدار عمري وهي ترددها، طفلا ففتى فشابا فأبا فأربعيني، وكنت أحب سماعها وهي تردد تلك الكلمات، لكن ترديدها لم يخل من شجن، ومن دموع، فهي أيضا كان لها أم رائعة، رحمها الله، اعتادت أمي زيارة قبرها وقراءة الفاتحة، وقد صاحبتها في بعض المرات.
في كلّ ربيع كنا نسمع جميعا "ست الحبايب"، فتقول ما أحلى كلمة يما زي العسل واحلى!
ظلت تردد مطلع الأغنية، حتى آخر أيامها، وقد بدا يظهر الإجهاد في صوتها، فبعد أن كانت تغنيها دفعة واحدة، صارت تقطع لتأخذ نفسا وتواصل. وكثيرا ما غنينا معا كلمات تلك الأغنية الرائعة التي كتبها الشاعر الغنائي حسين السيد، ولحنها محمد عبد الوهاب، عام 1959.
وكان غناؤنا باللهجة المصرية المحببة لنا في البيت، كوننا خريجي مصر يثير ذكرياتنا عن الفن وعن الفيلم الذي غنت فيه فايزة أحمد تلك الرائعة الخالدة.
56 عاما والأغنية طازجة تماما كقلب الأم.
ست الحبايب يا حبيبه يا اغلى من روحي ودمي
يا حنينة وكلك طيبة يا رب يخليكي يا أمي
ذكرتني أمي بأيامها الأخيرة وهي تغني لأمها، بالمرحومة فايزة أحمد، التي كانت آخر كلماتها وهي على فراش الوداع الأخير، تلك الكلمات.
كنت أكمل بقية الأغنية:
زمان سهرتي وتعبتي وشلتي من عمري ليالي
ولسه برضه دلوقتي بتحملي الهم بدالي
انام وتسهري وتباتي تفكري
وتصحي من الآدان وتيجي تشقري
لقد نال الشعر الغنائي باللغة العامية شهرة بسبب الغناء، لكن حظه من التناول الأدبي والنقدي كان أقلّ، ولما كان انحيازنا هو للمضامين، فإننا نزعم أن هذه القصيدة ليست فقط من أجمل القصائد، بل هي أيضا قصيدة عميقة ذات بنية قوية.
في البدء شعور الابن/ة تجاه الأم الحنون، ثم تدخل في تذكر ما تصنعه الأمهات منذ الإنجاب، وكيف يبقى ذلك ممتدا حتى بعد أن تكبر الفتاة وتنجب، حيث تصبح الأم –الجدة أما مرة ثانية لأحفادها وحفيداتها، كي تحمل معها هذا الحمل، حنوا منها على ابنتها التي صارت أما. وهو حنان عظيم يجعل الأم لا تستمتع في النوم.
ولكنني اكتشفت أنني غير حافظ للأبيات كاملة، فلمت نفسي، ورحت أبحث عن بقيتها:
تعيشي لي يا حبيبتي يا أمي ويدوم لي رضاكي
أنا روحي من روحك انت وعايشه من سر دعاكي
بتحسي بفرحتي قبل الهنا بسنة
وتحسي بشكوتي من قبل ما أحس أنا
يا رب يخليكي يا أمي يارب يخليكي يا أمي
هي إذن توأم الروح، والشعور بالاطمئنان كونها تدعو للأبناء والبنات، وهي درجة ارتباط عالية، من خلالها تقرأ الأم فرحهم وشكواهم.
ولأجل ذلك يبدع حسين السيد في خاتمة الأغنية، بأن الأبناء والبنات لن يستطيعوا مكافأة الأم، فيمنح الابن/ة نفسه عيونه وقلبه بل وحياته لأمه إن قبلت بها كهدية. ولعله حين غنى للأم إنما غنى للوالدين معا.
لو عشت طول عمري أوفي جمايلك الغاليه علي
أجيب منين عمر يكفي وألاقي فين أغلى هدية
نور عيني ومهجتي وحياتي ودنيتي
لو ترضي تقبليهم دول هما هديتي
يا رب يخليكي يا أمي ست الحبايب يا حبيبة
ها أنذا أصعد على درج دارنا، إلى بيتك الدافئ، لتسعدني ابتسامتك الكاملة، من القلب والروح، تلك المثبتة أمامنا، كأنك ترحبين بنا كما كنت تفعلين، تطمئنين، وتسألي عن حاجاتنا، تريدي لنا لا منّا، وكل حاجة صغيرة نحضرها ترينها كبيرة. ابتسامتك يا أمي تقوينا في رحلة الحياة.
أتحدث معك كما كنت أفعل، وسارة طفلتي الصغيرة تشير إليك، كأنك حاضرة، وأنت كذلك تحضرين في رحيلك كثيرا يمّا.
بيتك كما هو يا أمي، في كل مرة أدخله أطمئن على تفاصيله، بيتك حيّ، ومضياف كعهدك به ، وبيتك بيت السكينة والمحبة والسلام. له سحر خاص وجمال وهدوء نفسي، ما زال الأهل والأقرباء يشعرون بوجودك فيه، فأي سحر إنساني وأية محبة هذه!
بيتك بيتنا، تاريخنا، وكفاحنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، صبرنا ودأبنا، في كلّ لك فيه نصيب أنت ووالدي الحاج يقين، فكيف سنوفيكما!
لقد وجد الشاعر حسين السيد الوفاء:
نور عيني ومهجتي وحياتي ودنيتي
لو ترضي تقبليهم دول هما هديتي
كأن هديتك التي تريدينها أن نكون بخير، لعلنا اليوم في عيد الأم الثاني بعد رحيلك نشعر بذلك، فنمضي في الحياة مسرورين هانئين وهانئات، كما كنت توصينا.
نمر جميعنا بالأحداث، بشكل فردي، وكل عمر له أحداثه، لعلني أصعد درج البيت أنادي:
- يما، افتحي لي الباب!