الكاتب: د.احمد يوسف
المستشار ناهض الريس في ذكراه
المناضل صاحب الكلمة الهادفة والمشاعر الوطنية الصادقة
لم يكن من الوفاء أن أكتب عن فقيد الوطن الغالي، والصديق الذي جمعتنا به سنتين من العمل في بيت الحكمة، كان لنا فيها الموجه والناصح الأمين، دون أن أقوم بزيارة قبره، وقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة أنا وبعض رفقاء دربه المخلصين.
وما أن وصلنا إلى الضريح، حتى طالعنا هذا البيت من أشعاره، وجدناه منقوشاً على شاهد القبر:
فبعت لله نفسي واشتريت بها ** أجر المجاهد لم أنقص ولم أزدِ
بهذه البيت الشعري المنقوش على شاهد القبر ارتسمت هيبة صاحب المقام، والذي غابت عنا ملامحه وأحاديثه منذ نصف عقد من الزمان، ولكنها - اليوم - تطل علينا وتطالعنا بكل محياها وذكراها الجميلة، حيث النهج والأثر.
قبل خمس سنوات، وفي يوم الثلاثاء الموافق 13 إبريل 2010، توفي المستشار ناهض الريس (أبو منير) عن عمرٍ يناهز الـ 73 عاماً، قضاها في النضال وعمل الخير، وترك لنا خلفه من الذكريات والأثر ما يجعل سيرته عطرة بين كل من عرفوه، وعملوا معه في ميادين الفكر والجهاد والمقاومة.
إن الحديث عن المستشار ناهض الريس (رحمه الله)؛ وزير العدل السابق ونائب رئيس المجلس التشريعي، هو في الحقيقة تناول لشخصية فلسطينية احترمها الجميع، وعمل معها الكثير من الشخصيات الوطنية والقيادية في محطاتها الجهادية، ومن خلال الحكومة والمجلس التشريعي، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني.. إن المستشار ناهض الريس (رحمه الله) الذي شغل عدة مناصب حكومية فكان وزيراً للعدل، وأيضاً كان نائباً لرئيس المجلس التشريعي، وهو يتمتع بسيرة عطرة، وبخصال حسنة وبسجل زاخر من المواقف والأعمال التي ترفع من هامة الرجال وأقدارهم، وقد شهد له الجميع بها خلال سنوات عمره، والتي قضاها مناضلاً داخل الوطن وخارجه، فالرجل (رحمه الله) كانت تجلله سمعته الطيبة، ويده السخيّة بالبذل والعطاء، وقلمه الذي تألق وأبدع في ميدان السياسة والشعر والأدب.
رجل عرفه الناس على غير ما تعودوا رؤيته – عادة - من أحوال أبناء الذوات والأسر الأرستوقراطية، فهو إنسان بالغ التواضع وصاحب خلقٍ كريم.. كان أبا منير (رحمه الله) يحمل في قلبه مشاعر إنسانية جياشة، وأحاسيس يرقُّ لها دمع العين، كما أن كلماته الطيبة تعمل على جبر الخواطر المكسورة، ورفع الهمم المثقلة بالأزمات، ولها لمساتٌ حانية على أوجاع المستضعفين، وأهل المآسي والجراح من أبناء اللاجئين.
لقد عرفت المستشار ناهض الريس (رحمه الله) قبل عامين من وفاته، حيث كان اسمه يرد - دائماً - على ألسنة بعض الأخوة والأصدقاء في "جلسات التفاكر والتذاكر" لشخصياتنا الوطنية، وكان اسمه يأتي في سياق أنه أحد الشخصيات الاعتبارية؛ الوطنية والإسلامية، المعروفة بطهارة اليد ونظافة السلوك وجدية العمل في قطاع غزة، والتي لها بصمات لا يغفل عن ذكرها وتذكرها الكثير من الناس.
فالبرغم من حالة التشويه والاتهام التي طالت شخصياتنا الوطنية، ظل أبو منير واحداً من بين أولئك الذين يمكن أن نقول فيهم: إن طهارته الثورية لم تُمس، وثوبه الوطني ظل ناصع البياض، حيث كان يتمتع بسيرة حسنة ومسيرة حميدة، وبتجربة نضالية لا تشوبها شائبة، وكانت ألسنة الناس تلهج بذكره بكل الخير وفضائل الأعمال.
عندما عرفته وتعاملت معه عن قرب، قلت لبعض من حولي: في الحقيقة؛ هذا رجل تأخرت كثيراً في التعرّف إليه، وأشعر بالندم أنني لم أبحث عن صحبته والجلوس معه من قبل.
إن المستشار ناهض الريس هو مدرسة في الفكر والأدب، وأخلاقياته تشي بإنسان تربى في بيت جمع بين الأصالة الفلسطينية وعظمة السلوك الإسلامي المتميز.
لقد أشاد بمناقبه الكثيرون من أهل غزة، وقد ذكره وأثنى عليه د. أحمد بحر؛ النائب الأول لرئيس المجلس التشريعي، بالقول: "إن الراحل الكبير عاش لوطنه وشعبه وقضيته أكثر مما عاش لنفسه وأسرته، وكله قناعة أن الوطن والقضية لن يعلو شأنها أو يرتفع مجدها إلا عبر مزيد من الفداء والتضحيات الممزوجة بالألم والمعاناة... إن مدرسة ناهض الريس الفكرية والسياسية والقانونية والثقافية والوطنية يجب أن يتم توثيقها ورعايتها في إطار جامع، وذلك بغية الاستفادة منها، وحثّ الأجيال على الاقتداء بها".
لقد كان اسم والده منير الريس (رحمه الله) يتردد في سنوات طفولتنا كشخصية وطنية، وأحد رجالات القطاع المعدودين في الخمسينيات والستينيات، ولقد علمنا - لاحقاً - أنه كان أحد الذين عملوا في صفوف طلائع المقاومة الشعبية.. وكان ناهض الريس (رحمه الله) على خطى أبيه وأثره، رائداً في العمل الوطني النضالي؛ (ذريةً بعضها من بعض)، وله مساهمات في تأسيس ورعاية الخلايا الأولى للمقاومة المسلحة (قوات التحرير الشعبية) في قطاع غزة بعد هزيمة عام 1967م، كما ذكر لي الصديق سعدي أبو حشيش؛ أحد الكوادر العسكرية في حركة فتح، والذي تمَّ اعتقاله في مطلع السبعينيات على خلفية العديد من العمليات التي استهدفت مواقع جيش الاحتلال الإسرائيلي.. وهذا ما أكده كذلك صديقه اللواء مصباح صقر في بعض مقابلاته الصحفية.
بيت الحكمة: بداية التعارف
عندما قمنا بتأسيس معهد بيت الحكمة في نهاية عام 2008م، وبدأنا البحث عن شخصية وطنية تتمتع بالنزاهة والاستقلالية والاحترام لترأس مجلس إدارة مؤسسة بيت الحكمة، لم نجد أفضل من المستشار ناهض الريس، فذهبت أنا والنائب سيد أبو مسامح لزيارته في بيته، حيث دار بيننا حديث طويل حول الوطن والأوضاع الفلسطينية المتعثرة، وما المتوجب عمله على مستوى النخبة والجماهير.. لقد أدركت بعد اللقاء أنني أمام رجل يستحق - بجدارة - أن يكون في كل مواقع القيادة والصدارة.. لقد عرضنا عليه - بعد تلك الزيارة - أن يترأس مجلس إدارة بيت الحكمة، وألححنا في الطلب... لم يُخيب الرجل رجاءنا؛ فكان رجلنا الأول في المؤسسة، حيث أفادنا بخبراته القانونية ومعرفته بمجالات العمل العام، فصاغ لوائح المؤسسة، وشارك في وضع السياسات، وبارك ما اقترحناه من المناشط والفعاليات، ووفر علينا الكثير من الجهد والمال والتفكير والآليات.
شاركنا الرجل في تفاصيل جهود التأسيس، ورعى معظم اللقاءات والأنشطة التي كنّا نقوم بها؛ لم يتأخر ولم يتذمر من حجم الفعاليات التي كنّا ندعوه لها، وأحياناً كان يتعهد بتغطية مصاريف بعض هذه الأنشطة من جيبه الخاص.
لقد تشرفت مؤسسة "معهد بيت الحكمة" بكونه رئيساً لمجلس إدارتها، حيث منح اسمه مصداقية واحتراماً كبيرين لعملنا، ومكَّننا من اجتذاب حضور نفخر به ونعتز لساحة أنشطتنا.
لقد كانت قيادته للمعهد تتسم بالحكمة والرشد، وكانت أحاديثه واسهاماته الفكرية للشباب محط إعجاب وتقدير، وقد رعى تخريج العديد من الدورات التدريبية، وكانت كلماته ونصائحه الأبوية مصباحاً منيراً، يهدي للحق والرشاد والاستقامة والوفاق.
زيارة وعشاء في رفح
دعانا المستشار (أبو منير) أكثر من مرة للغداء في بيته، وقد شاركناه كذلك إفطاراً في رمضان، جمعنا فيه مع عدد من الأصدقاء، حيث كان الحديث يستفيض بيننا في مستجدات الوضع الفلسطيني، ويأخذنا في جولة يصول فيها بتاريخ القضية وصفحاتها المكتنزة بالأحداث والذكريات وسير الرجال.
ذات يوم، دعوته للعشاء في بيتي بمدينة رفح، وكان طبيعياً أن يشدني الحديث معه إلى بدايات العمر، وذكريات حياتنا كلاجئين في المخيمات، وإلى المعاناة التي مرَّ بها الأهل طوال تلك السنين، التي تنقلنا فيها من مكان إلى آخر حتى استقر بنا المقام في أوائل الثمانينيات بحي تل السلطان.. رحلة تجسد أبعاد التغريبة الفلسطينية، التي لم يسلم من مكابداتها وأحزانها وضراوة مسغبة الفقر وشظف العيش فيها مهاجر فلسطيني.. تحدثت عن قسوة الحياة التي مرَّ بها والدي (رحمه الله) في هذه التغريبة، وعلى هامشها سفري وغربتي الطويلة عن الأهل، بكل ما تعنيه وتكتنزه من أحلام وذكريات ودموع لم يتوقف نزفها، لغيابنا الطويل بعيداً عن ملاعب الطفولة ومدارج الصبا في أحياء المخيم وحواريه.
كان أخي المستشار(أبو منير) ينصت حيناً، ويُعلِّق حيناً آخر.. وبعد يومين من ذلك اللقاء في بيتنا، كتب المستشار - من وحي ما تحدثنا به أو رويناه - مقالاً في "صحيفة فلسطين" يعبر فيه عن نضالية الفلسطيني وجلده وعطائه، ليصنع حالة وجود كريم ينبثق من وسط رماد المعاناة والتشرد والاغتراب، الأمر الذي أخذ يُذكرني بما قاله الأديب الفرنسي لامارتين: "لا شيء يجعلنا عظماء غير ألمٍ عظيم"، وهذا معناه: إن الذي لا يبكي لا يدرك الحقيقة ولا يعرف الإنجاز.
لقد زادت محبتي له مع الأيام، ومع كل لقاء جمعني به منفرداً أو بصحبة الآخرين.. لقد طلبت منه أن يكتب لي تقديماً لكتاب "وطن وعيون دامعة: فتح وحماس؛ جدلية التعايش والمواجهة"، ولدراسة أخرى بعنوان "الحركة الإسلامية في تركيا: الاستهداف والتمكين"، وقد أكرمني الرجل بهذين التقديمين، وكان دائماً عند وعده، يفي بكل عهدٍ والتزام قطعه على نفسه.
التقيته قبل أسبوعين من وفاته؛ أنا والنائب سيد أبو مسامح، وكان المرض قد أحكم الطوق عليه، ولكني رأيته مثابراً لم يستسلم، وكان يعمل بهمة وابتسامة من على سريره، حيث كان يتابع مراحل تشطيب آخر قصة كتبها، بعنوان "البيارة الضائعة".. لم أشعر منه - برغم الإعياء - بأي امتعاض أو تذمر، بل وجدت رجلاً مؤمناً بقضاء الله وقدره، أدرك أنه لم يبق له من العمر الكثير، وأنه قد أزف الرحيل، فأخذ يهيء نفسه للقاء وجه ربه الكريم.
وفي يوم الثلاثاء، موعد الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء، جاء من يخبرنا بأن المستشار ناهض الريس تمَّ نقله إلى غرفة الإنعاش بمستشفى الشفاء، فتعاقدنا على الذهاب لزيارته هناك بعد انتهاء الاجتماع.. ولكن، وقبل أن نغادر قاعة المجلس إلى المستشفى، كان الخبر الذي أصابنا جميعاً بالحزن والألم، بأنه قد فارق الحياة. ترحم الجميع عليه، وكانت الجنازة المهيبة في اليوم التالي، حيث شاركت الحكومة، وكل وجهاء غزة، وفصائل العمل الوطني والإسلامي، في وداع الرحل العزيز على قلوبنا جميعاً إلى مثواه الأخير، حيث وسِّد الثرى بمقبرة الشهداء في منطقة جباليا.
ناهض الريس بأقلام من عايشوه
للأخ أبي منير أصدقاء كُثر، وقد عرفت بعضاً منهم في مدينتي رفح وهما: الأستاذ المؤرخ عبد الكريم الحشاش، والمناضل أحمد أبو ياسين، فأحببت أن استطلع منهما بعضاً من تلك الذكريات.
أولاً) الأستاذ عبد الكريم الحشاش؛ هو واحدٌ من الذين عايشوا الفقيد في مسيرته النضالية داخل الوطن وخارجه، وهو يصف لنا الأخ ناهض الريس بالقول: "كان أبو منير (رحمه الله) مناضلاً حقيقياً، فهو آثر العمل الوطني على الدعة ورغد العيش، حتّى إنّ الثوريين إبّان المد اليساري في ساحة المقاومة، كانوا يتعجبون من ابن عائلة لها شأنها من عائلات غزة، وينخرط في العمل النضالي، فكانوا يقولون له: أنت منسلخ عن طبقتك يا أبا منير! فيردّ بقوله: نحن في خضمّ معركة وطنية في مواجهة قوة منظمة عاتية وهي الحركة الصهيونية، فعلينا أن نحشد كلّ طاقات الشعب الفلسطيني سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فلاحين وعمالاً، أبناء القرى والمخيمات في الداخل والشتات، لنصدّ هذه الهجمة العاتية، ولسنا بصدد فتح معارك جانبية تبدد الطاقات لنضيع هدراً.
أبو منير ثائر متميّز له مساهمات في العديد من المجلات، عمل في القطاع العسكري والتنظيمي والتوجيه السياسي، وفي القضاء، فكان كادر استقطاب للثورة بأخلاقه العالية وسلوكه السوي وطبعه النبيل، لا منفراً منها كشأن الآخرين الذين أساؤوا للثورة والعمل النضالي، ترجم كتاب "حرب العصابات" لتشي أرنستو جيفارا، وكتب الأشعار الجميلة والقصص الهادفة والمقالات السياسية والكتب الفكرية، والأغاني الرقيقة إلى مدن فلسطين، وكان يعي كلّ المراحل برأي نيّر، وحذّر من خطورة المفاوضات، ووضع تحت أيدي السياسيين وأصحاب القرار كتباً سياسية تتناول قادة العدو وأفكارهم ومطامعهم في الأرض، وأنهم يحبون الاستئثار بالأرض والماء والكهرباء والهواء وحرمان الفلسطيني من كلّ مقوّمات الحياة، كان يشجب التفريط والتساهل بحجة التكتيك وإرضاء الأمريكان والأوربيين والذين يدّعون الاعتدال من الحكام العرب، وهو على الصعيد الفلسطيني مع الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وضدّ التساهل فكان كثيراً ما يعارض اليسار في انفتاحهم على اليسار الإسرائيلي المراوغ الذي في المحصلة لا يمكنه إعطاء شيء كما كان يصطدم باليمين الذي يظنّ أنّه أحرص ما يكون ويعمل على لتحرير الوطن بشكل مرحلي دون تفريط، فكتب أبو منير كتاب "ماذا نأخذ بالمفاوضات؟" محللاً الاتفاقيات التي أبرمها الكيان الصهيوني مع مصر والأردن، وكيف أنّ مردودها كان سلبياً على الشعبين المصري والأردني، وفاقم من وضعهم الاقتصادي، فكانوا يظنون أنّ أبواب المساعدات ستفتح وتنهمر عليهم الأموال والاستثمارات وتجعلهم يدفنون فقرهم بانفتاحهم على إسرائيل، وإنّ لها الأفضلية في المعاملات التجارية والزراعية فوقعوا فريسة الديون وشظف العيش نتيجة خطأهم الاستراتيجي وتفكيرهم الخاطئ!
كان أبو منير لا تثنيه لومة لائم عن التصريح بما يراه بفكره الثاقب وعقله الحصيف في المسائل الوطنية، ولا يجامل أحداً في المسائل التي فيها مصير الوطن وصلاح الأمّة". ومن الجدير ذكره، أن الأستاذ ناهض الريس قد وجد ملاذاً آمناً في "منطقة الحشاشين" بمساعدة الأستاذ عبد الكريم، وذلك عندما طارده جيش الاحتلال الإسرائيلي وأجهزنه الأمنية عام 1968م.
ثانياً) الأستاذ أحمد الشيخ (أبو ياسين)؛ وهو أيضاً أحد رفقاء درب الأخ أبي منير، فيقول: "لقد ربطتنا العلاقات المقدسة في سنوات الكد الثوري، وذلك منذ أن اخترنا طريق الكفاح والنضال الوطني؛ طريق المجابهة والتصدي والاقتحام تحت ضغط الواقع ومعضلاته، وحصارات القوى المضادة لتطلعاتنا وأحلامنا المشروعة، ولم نكن في يوم من الأيام في بحبوحة تُذكر، وكنا وما زلنا نتمسك بالثوابت الوطنية، بل والكثير منا دفع حياته ثمناً لهذا التمسك".
ويضيف بمرارة، قائلاً: "في ذكراك أيها الرجل المناضل، ما زلت حياً في قلوب الفقراء واللاجئين الذين أحببتهم، فلقد زرع أبو منير – رحمه الله – الأفكار النضالية وكسب محبة الجميع، وأعاد ببراعته رسم الاستنهاض الثوري، وتعمق في الحياة الاجتماعية وخاصة قضايا اللاجئين، وألقى عليها بظلال أدبية تكشف أن الكاتب إنسان محترف في تلمُّس أوجاع الناس، لقد كنت حقاً - يا أبا منير - محترفاً بامتياز في تلمُّس أوجاع فلسطين فعشقتها!
لقد عُرف عنه كفاءته في التنظيم، والقدرة الفائقة على العطاء والإخلاص والانضباطية الثورية، فكان سلوكه انعكاساً لوعيه الرائع، حتى إنني أتذكر في بداية السبعينيات أثناء زيارته للقاهرة كان يأتي للزقازيق، وهي المحطة الأساسية للعمل الثوري عن باقي الأقاليم الأخرى (لجنه غزة القطاع الغربي)، كان رحمه الله بصحبة أمين سر اللجنة الأخ المرحوم صبحي أبو كرش (أبو المنذر)، وقد كانا يفضلان الإقامة في شقتي في الزقازيق بدلاً من فنادق الخمس نجوم، وبدلاً من تناول الطعام في المطاعم الفخمة، كنا نتناوله في الشقة السكنية، التي كنت أقيم فيها، وكانت بمثابة موقع عمل للقطاع الغربي في العام 1972.
لذلك، نؤكد على أن تعينيه في قيادة القطاع الغربي مع أبي المنذر لم يكن اعترافاً قاعدياً بإمكانيات أبا منير فحسب، إنما هي ثقة تمنحها الحركة لمن يستحق.
وهنا وقع اختياره للقيادة في لجنه غزة الغربي – جهاز الأرض المحتلة، لم يكن هذا الاختيار توزيعاً عفوياً، إنما كان اختياراً مرتبطاً بطبيعة المرحلة، واهتماماً أوسع بالجانب السياسي والنضال الجماهيري في الوطن المحتل، حيث كان العمل العسكري في السابق يأخذ الجانب الأوسع من اهتمام قيادة الجهاز إلى حدِّ الإنشغال به عن المهام الأخرى.
ويمضي مسترسلاً بالقول: "كان أبو منير (رحمه الله) طيب القلب، واسع الصدر، مرهف الإحساس، سريع التأثير، يحب مخالطة الناس دون حواجز أو وسائط.. لم يكن أبو منير محاطاً بالبريق مثل الآخرين، وكان معتزاً بنفسه وواثقاً فيها, حازماً وعنيداً في مقارعة فكره؛ لأنه على يقين بقدرته على إثبات الصواب.
وكان أبو منير - حسب تجربتنا معه - ديمقراطياً في علاقاته وممارساته داخل الأطر التنظيمية، وكان يعرف جيداً حدود الفصل بين حرية الرأي والالتزام، وأتذكر بعد تخرجنا من الجامعة، وقد كان معي أربعة شباب في لجنة العمل، طُلب منا التفرغ لمدة سنة، وكان بعض الزملاء في أمسّ الحاجة للعمل، وقتها كان أبو منير متعاقداً على ليبيا، فترك لهم الحرية في السفر أو التفرغ، فكان رأى اللجنة أن نعمل مع هذا الرجل متفرغين بدون رواتب؛ لأننا نعترف أن الراحل الكبير أبا منير كان مدرسة يُمثل بسلوكه وممارسته هذا البعد، الذي يختلط على الكثرين التميز فيه بين حرية الرأي وقدسية الالتزام.
بيد أن الأخ أبا منير (رحمه الله) كان صمام الأمان في كثير من المحطات الحركية في فتح، حيث بذل جهداً كبيراً مع الأخ أبو المنذر (رحمه الله) في لجنة الـ(18) لرأب الصداع في الحركة، وذلك أثناء انتفاضة حركه فتح في شهر مايو 1983م، حيث لم يألوا جهداً من أجل كبح نزاعات المغامرة والمراهقة السياسية عند الكثرين ممن لم تنضج تجربتهم الثورية، وكنتُ وقتها في دمشق في منزله في منطقه الزاهرة، وكنت مرسلاً من قبل الأخ أبو خالد العملة (رحمه الله) لإقناعه بالانضمام الى حركه فتح الانتفاضة، حيث شعرت أنه كان مقتنعاً بالتغير وضرورة إصلاح فتح، ولكنه قال لي بالحرف الواحد: يا أستاذ أحمد؛ هل يُعقل أن أكون في الاصطفاف الشيوعي الماركسي.!! وكان يقصد بذلك أبو خالد العملة.. لذلك، فإن عدم انخراطه كان لأسباب عقائدية بحتة".
ويضيف الأستاذ أحمد الشيخ: "أود أن أوضح لمن لا يعرف الكثير عن أبي منير (رحمه الله) أنه اعتُقل في سوريا أثناء قيامه بعمله في القطاع الغربي بتدريبه لأحد المناضلين في أحد المنازل في منطقة (الهامه) برفقه الأخ أبو عبد الله الناطور، وهذا رجل تربطني به علاقة نسب، وقد تمَّ الإفراج عنهم بواسطة الأخ أبو عمار (رحمه الله) بعد أن قضوا في السجن خمسة شهور.
أخي أبا منير.. نفتقدك الآن ونحن نعيش واقع الانقسام البغيض، ونعاني من غياب وحدة الصف والموقف.. أتذكر كلامك يا أبا منير يوم أن قلت: إن الثورة ليست ملكاً لمماليك الأنظمة، يومها قيل لنا كفوا عن الحياة واذهبوا الي الموت، وذهبنا وحدنا في غربتنا، وكان الموت مضاعفاً في الغربة، ولهذا اخترنا الجزء المتاح من الوطن، وقلنا: إن الموت برصاص العدو أرحم من الموت برصاص الأخ وابن العم".
أخي أبا منير رحمك الله.. في هذه الأيام نتفقد أجزائنا، لنتأكد من أننا مازلنا أحياء، نتفقد أحاسيسنا، وكيف مازالت تحتمل هذا الخراب الشامل في النفوس المتعطشة للخيانة والنفاق وأكل السحت.
أخي أبا منير رحمك الله.. أنت تأتيني كل صباح بأشعارك التي عشت ميلادها معك؛ "ديوان عندما يزهر البرتقال"، وحيرتني فيما أقرأ منها، فهي البوصلة نحو الحرية، وظللنا على العهد. رحلت أيها المناضل الكبير وصاحب القلم الناري، وتركت لنا أشعار العودة والحرية. هذا الرجل كان مثل أزهار فلسطين رقَّةً عندما يكون الموقف إنسانياً، ومثل صخورها صلابهً عندما يكون الموقف يتعلق بالقيم والمبادئ".
ثالثاً) اللواء مصباح صقر؛ رفيق درب ورفيق سلاح، لقد عملنا أنا والأخ ناهض (أبو منير) معا، حيث كنا ضُباطاً في الكتيبة (319) مشاه، والتابعة للواء (107) مشاه من جيش التحرير الفلسطيني. وكما يعلم الجميع فإن رفقة السلاح لها طعمها ونكهتها ووشائجها الخاصة بها بحكم طبيعة الحياة العسكرية الشاقة، والتي تتسم بالخشونة والجدية والانقياد الشديد والطاعة الواعية الملتزمة، وما ينجم عن ذلك من معاناة يومية توثق العلاقات الشخصية بين الزملاء بحيث يصعب انفصامها على مر الأيام، وهذا ما يحدث كذلك في كافة التجارب الحياتية المتسمة بالكد والمعاناة الجماعية كرفقة الأسر والسجن على سبيل المثال.
لقد توطدت علاقتي بالضابط الواعد ناهض الريس الذي كان يصغرني سناً ورتبةً، وللأمانة فلقد سعدتُ بصداقته ليس لكونه سليلاً لأحد الأُسر الكريمة والعريقة في مدينة غزة فحسب، بل ولتمتعه بقدر وافر من الاستقامة والتواضع والخلق الكريم فضلاً عن حماسته الواعية ومشاعره الوطنية الجياشة، ونظافة يده وسخائها.
لقد استشعر هذا الصديق على وجه السرعة وبفضل ما يتمتع به من فطنة وذكاء، وجود تيار وطني داخل جيش التحرير الفلسطيني يضم ثلة من الضباط الثوار المتمردين على بعض الأوضاع والممارسات غير المريحة. وإذا به يطلب مقابلتي ويحدثني عما يحبس في صدره من همٍ وطنيٍ، وعن الحاجة لتنظيم ثوري يتبنى منهج حرب العصابات كما أهداني نسخة من ترجمته لتجربة الثورة الكوبية بقلم القائد العالمي الشهير جيفارا، لقد حدث ذلك في النصف الأول من ستينات القرن الماضي التي شهدت بدورها بزوع طلائع العديد من التجمعات والحركات الثورية الفلسطينية مُؤذِنةً بظهورها إلى العلق، وبدء انطلاق مسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني، ولقد كان من الطبيعي والبديهي أن يُصاحب هذه الحقبة استقطاب هذه الحركات للعديد من الضباط وصف الضباط العاملين في جيش التحرير الفلسطيني لما تتمتع به هذه الشريحة من كفاءة وقدرات عسكرية، وبكل تواضع فلقد شرفت بالانتماء في هذه الحقبة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) على يد المناضليْن الكبيريْن: سليم الزعنون (أبو الأديب) الرئيس الحالي للمجلس الوطني الفلسطيني، والمرحوم عوني القيشاوي ( أبو معين) معتمد تنظيم حركة "فتح" في قطاع غزة آنذاك، ولأن انتماء العسكريين النظاميين للأحزاب والحركات السياسية كان محظوراً ويتم سراً، لم أفاتح الزميل "ناهض" بذلك، وما إذا كان هو الآخر قد تم استقطابه من قبل إحدى هذه التنظيمات أم لا.. لكنّا توافقنا على أهمية النهج والعمل الثوري اقتداءً بالتجارب التي سبقتنا إليها شعوب أخرى. وللحقيقة فإن الذي فاجأني في مبادرة الأخ ناهض (رحمه الله) هو أن يأتي ذلك من قبل ضابط ولد في كنف أسرة ثرية وفي فمه ملعقة من ذهب كما يقولون، إلا أن نشأته في المقابل في بيت والده الزعيم الكبير والوطني البارز "منير الريس" قد مهد الطريق أمامه للسير على نهج وطريق والده رحمه الله. إن هذه النشأة الوطنية، فضلاً عن اهتمامه واطلاعه على التجارب الثورية للشعوب الأخرى، ومن ثم انخراطه وهو الحائز على شهادة بكالوريوس الحقوق في السلك العسكري – كل ذلك – ساعد هذا الشاب المثقف الطموح على الانسلاخ تدريجياً وبسلاسة من وشائح القناعات والانماط السلوكية للطبقة "الارستقراطية" التي ينتمي إليها، وبالتالي سرعة الاصطفاف مع الطبقات الدنيا والكادحة في المجتمع الفلسطيني، وتنهمه وتجاوبه مع تطلعاتها ومعاناتها ومن ثم الدفاع عنها.
لقد انقطع تواصلي المشار اليه مع المرحوم الزميل" ناهض" بعد نكسة عام 1967م، والتي أصيب خلال معركتها الملازم ناهض بجروح طفيفة وهو يدافع ببسالة مع جنوده عند تلة المنطار أو بالأحرى عند الخط الدفاعي الأمامي عن مدينة غزة. لقد غادرت القطاع إثر هذه النكسة التي ترتب عليها احتلال العدو الاسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية الفلسطينية، وذلك كي ألتحق مع آلاف الضباط والجنود بقيادة جيش التحرير الفلسطيني بالقاهرة، حيث أُعيد تنظيم هذه القوات، حدث ذلك في ذات الوقت الذي اتخذَت فيه اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الأستاذ "أحمد الشقيري" قرارها الهام باستحداث "قوات التحرير الشعبية" التابعة لجيش التحرير، وبذلك يكون الحلم الذي تحدثنا عنه، واتفقنا عليه قبل النكسة المذكورة، قد أخذ يشق طريقه على أرض الواقع. وبموجب هذا القرار التاريخي، فلقد ألقت قيادة جيش التحرير بالقاهرة على عاتقي مهمة تشكيل "قوات التحرير الشعبية" بالقطاع باعتباري القائد العسكري لقطاع غزة. وفور وصولي إلى القطاع، شكلتُ قيادة هذه القوات وهكذا بدأت عملية التجنيد والتنظيم وتشوين الأسلحة والذخائر، التي خلفها الجيش بعد المعركة. وكان من أول من التقيتُ بهم بعد عودتي بطبيعة الحال هو صديقي الملازم "ناهض"، الذي كان قد أعد نفسه ومجموعته لخوض حرب العصابات ضد قوات الاحتلال في القطاع. وفي بيارة والده بحي الشعف توافقنا على انخراطه والتحاقه بقوات التحرير الشعبية، كما توافقنا على قضايا أخرى ذات علاقة بتشكيل وعمل هذه القوات. ومن الجدير التنويه به في هذا السياق للتدليل على جوانب مشرقة من شخصية هذا القائد المناضل، أن لقائي الأول به سالف الذكر الذي تمَّ في بيارة والده قد استغرق سحابة نهارين وليلة شديدة البرودة، بتنا خلالها في "كوخ" يتسع بالكاد لشخصين، حيث أصر هو رحمه الله أن أنام على سرير عسكري بالكاد يصلح للنوم، عليه فراش متواضع للغاية، في حين نام هو على الأرض مفترشاً بطانية وملتحفاً بأخرى، وبجوارنا "كانون" متوهج كاد أن يقضي علينا من أثر أول وثاني أكسيد الكربون المنبعث منه، لولا رحمة الله واهتراء الباب الخشبي للكوخ المطرز بالشقوق الكثيرة.
هذه الواقعة الأولى، وقبل أن أودعه قبل غروب شمس اليوم الثاني حيث أُبْلِغْنا بأن قوات الاحتلال قد داهمت بيت والده، وقد تداهم "البيارة" التي نتواجد فيها، فانطلقنا على الفور الى بيارة أخرى، حيث وصلنا قبل موعد إفطار شهر رمضان بقليل، ورحب بنا البيَّاري الذي أعد على عجل "زبدية" عدس مجروش كبيرة وبعض الفراشيح ورأسين من الفجل. ولقد حرصت أثناء تناولنا طعام الإفطار على مراقبة هذا الزميل "ابن الذوات" إذا صح التعبير، وإذا به يتفوق في سلوكه المتواضع الذي لا يختلف في بساطته وتعبيراته عن بساطة وتعبير أي فلاح أو بدوي فلسطيني أصيل. لقد غادر بعدها (أبو منير) مدينة غزة إلى رفح، حيث المكان كان أكثر أمناً في جنوب القطاع، مما صعّب عملية التواصل بيننا.. ومع ذلك، فلقد واصل هناك مع أفراد مجموعته مقاومة قوات الاحتلال، حتى اضطر إلى المغادرة إلى الأردن عبر صحراء سيناء على ظهر بعير، حيث التحق على الفور بقواعد جبين التحرير في الأغوار، ومن ثمّ تنقّل بين عدة مناصب قيادية هامة في قوات التحرير وقوات الثورة الفلسطينية.
وإثر توقيع "اتفاق أوسلو"، وقيام السلطة الفلسطينية في القطاع والضفة، عاد الأخ والصديق "أبو منير" إلى عرينه في قطاع غزة، حيث عمل بجهاز القضاء، بينما كنتُ أتولى قيادة جهاز الأمن الوقائي في الضفة والقطاع. وهكذا، عادت علاقتنا الأخوية والحميمة إلى سابق عهدها، نتواصل ونتشاور بصورة دائمة، ونعمل معاً يداً بيد في خدمة الجمهور وتصويب المسار، ومكافحة الفساد، وإعلاء شأن الصالح العام، ولقد توَّجنا هذه العلاقة الوطيدة بالدخول معاً في برنامج انتخابي واحد كمستقليْن، وذلك في انتخابات 2006م.
رحمك الله يا "أبا منير"... لقد تركت فراغاً كبيراً في حياتي لم يملأه أحدٌ بعدك، وسأظل أفتقدك ما كان في العمر بقيّة.
ختاماً: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن
لقد غادرتنا يا أبا منير بعد مشوار نضالي طويل، أشهد لك أنك كنت تقف مخلصاً إلى جانبنا في الحكومة، وكنت تسدي لنا النصح المبين، ولم يبخل قلمك – أيضاً - عن توجيه الانتقاد لمن تراه معطلاً لعملنا كسلطة منتخبة، حتى من بين قيادات حركة فتح التي كنت تنتمي إليها، كما أشهد لك يا أبا منير أنك كنت محباً للمقاومة وداعماً لها، وكنت غير مكترث بما لحق بك من أضرار جراء تحركات رجالاتها في بعض الممتلكات الخاصة بك والقريبة من الحدود، وكنت تعتبر ذلك سهمك في هذا الجهاد، وجزءاً من مساهمتك في مشروع تحرير فلسطين.
رحمك الله يا أبا منير، وأسكنك فسيح جناته، لقد كنت لنا نِعمَ الأخ المعين، ونِعمَ الصديق الوفي.
لقد أكرمك الله (عزَّ وجلَّ) بأكثر من ولدٍّ صالح يدعو لك، وقدّر لك أن تقدم أكثر من صدقة جارية لن ينقطع أجرها عنك.
طبت حياً، وطبت ميتاً، يا خير الرجال..
يا أبا منير.. ما مات – حقاً - من ترك المآثر بعده.