الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

دائرة العار

نشر بتاريخ: 15/04/2015 ( آخر تحديث: 15/04/2015 الساعة: 17:21 )

الكاتب: المتوكل طه


دائرة العار
إلى أمّ الأسيرألمقهورة في دوائر العار

المتوكل طه
لم نتعلّم تماماً من حكمة المرأة في حادثة بزرجمهر؛ تلك التي رفعت سترها لأن الجموع خالية من الرجال! وها هي الدائرة تعود بَدّاً حجرياً طاحناً للقلب وجير العظام، وكأننا استمرأنا العذاب، وفَقَدنا بساطة القول بأن الفرس تحتمل سَرْجاً واحداً لا سرجين.
* * *

تصل الحافلةُ قبل صلاة الصبح، وعلى الأهالي أن يكونوا مجتمعين أمام مكتب الصليب الأحمر، ومَنْ يتأخر دقيقة واحدة لن يزور! فالطريق تحتاج سبع ساعات على الأقل، وعلى السائق أن يعود قبل المغرب، لأن التصريح الذي يحمله يبدأ من الساعة الخامسة صباحاً حتى الساعة السابعة مساءً.
تنطلق الحافلة في الليل البهيم، ويكمل معظمُ الأهالي نومَهم فيها، ومع الشروق وضوضاء الطرقات يستيقظون، ويتبادلون أطراف الحديث، ثم يفتحون أكياسهم وحقائبهم، ويمضغون ساندويشاتهم الخفيفة بتخفٍّ وهدوء، ويسكب بعضهم الشاي أو القهوة من التيرموسات التي أحضروها.
ويتعازمون ويدخّنون، ويأخذهم الكلام الذي لا ينقطع إلاّ عند كل حاجز تفتيش من الحواجز الثمانية ، التي توقفهم وتدقّق في أوراقهم وهوياتهم وتفتِّشهم، وغالباً ما وصلت الحافلة بعد انتهاء وقت الزيارة، فيعود الأهالي كما جاؤوا، دون أن يروا أبناءهم وإخوانهم، أو يطمئنوا على أحوال المعتقلين!
كان جنود الحواجز يتعمّدون تأخير حافلات الزيارة ساعاتٍ وساعات، على رغم إشارة الصليب الأحمر التي تغطّي زجاج الحافلة الأمامي، كأنهم ينتقمون من المعتقلين ومنْ الذين أتوا بهم إلى هذه الدنيا! وأخيراً تصل الحافلة، فتجتمع الحافلات من كل المدن شمالاً وجنوباً، وينزل الأهالي في الساحة المكشوفة لأنّ على الحافلات أن تنتظرهم هناك على بعد كيلو متر في المكان المحدد لها.
وبالمناسبة، كثيراً ما تصاهَرَ الأهالي وتعارفوا وتزاوجوا لطول ما التقوا في الزيارات.
ونعود إلى الأهالي الذين عليهم أن ينتظروا، فكل سجين له عشرون دقيقة يلتقي خلالها مع اثنين من أهله القريبين إليه من الدرجة الأولى (أب أو أم، ابن أو ابنة، أخ أو أخت، فقط).
ويدخل الأهالي حسب الترتيب الأبجدي لأسماء المعتقلين، ويُسمح بدخول عشرين من الأهالي لعشرة من أبنائهم، بعد حفلة تفتيش جسدي، وتحقيق وتدقيق، وسَمِّة بدن، وصراخ وأوامر وتحذيرات، وشتائم، وتحديق، وريبة... ويلتقونهم من خلف شبك حديدي مغطى بالكامل بلوح بلاستيكي أو زجاجي شفّاف، وثمة فتحات صغيرة ليسمع بعضهم بعضاً.
والأهالي في الساحة المكشوفة محظوظون إذا لم تكن الشمس مسلّطة عليهم.. أو إذا كانت السماء لم تحمل ماءها حتى تنتهي الزيارة، ولطالما غرق الأهالي بعرقهم الدبق الغزير، أو تحت المطر وفي وحل الساحة الطامي الرّخو!!
وكل ذلك يهون ومقبول ومعقول ويمكن استيعابه! ولكن، إذا أرادت امرأة أن تقضي حاجتها، فأين تذهب؟! لا مرحاض ولا تواليت ولا كنيف ولا خارج ولا حمّام ولا يحزنون، فالساحة مكشوفة مسوّرة، وعلى زواياها الأبراج والمراقبون المسلّحون! فماذا تفعل الأمهات والأخوات؟ وبالمناسبة، فإن الرجال يذهبون إلى السور ويقابلونه مباشرةً ويفرغون مثانيهم، والجميع يتحاشى النظر إلى مَنْ يذهب إلى هناك!
ونعود إلى النساء، ماذا يفعلن؟
قررت النساء أن يقفن على شكل دائرة محكمة الإغلاق وظهورهن إلى ظهور بعضهن حتى لا يستطيع الهواء النفاذ بينهن، وتدخل كل مَنْ ازدحم الماء في مثانيها، ويتوالين، وغالباً ما استمرت النساء في ضرب هذا الإطار الدائري ساعات طويلة، وبالطبع فإن الحالة لا تخلو من صوتٍ هنا أو رائحةٍ هناك، ومن ضحكةٍ هنا أو غمزةٍ هناك، وهكذا قضين حاجتهن، وتغاضين عن جنود الأبراج الذين ربّما يرون مَنْ تُقرفص وسط الدائرة! والرجال، طبعاً، يقفون معاً بعيداً عن دائرة العار هذه !!
... وفجأة ، وفي الزيارة الأخيرة ، وعندما انهلك الأهالي من الرطوبة والانتظار، وهدّهم الجوع والتعب، وكانوا يفترشون الأرض في هذا الصيف القائظ، وقفت امرأة من الأهالي وأنزلت تنورتها، ثم أنزلت سروالها الداخلي، وقرفصت لتقضي حاجتها، فتصايحت النساء، وأدار الرجال وجوههم محوقلين، وحاولت النسوة أن يضربن حولها دائرة الإخفاء، لكنها صرخت....!