نشر بتاريخ: 23/04/2015 ( آخر تحديث: 23/04/2015 الساعة: 11:11 )
الكاتب: د. وليد القططي
الثورة تعني التغيير الجذري الشامل للواقع الموجود في المجتمع , وهذا التغيير يتضمن عمليتين اجتماعيتين هما الهدم والبناء , هدم النظام القديم السائد في المجتمع وبناء نظام جديد على انقاضه . وعندما تهدم الثورة النظام القديم وتعجز عن بناء النظام الجديد , تخرج عن مفهوم الثورة وحقيقتها لتصبح مجرد احتجاج وهياج وانتقام لا ترقى إلى مستوى الثورة التي تحكمها قوانين وسنن تاريخية تؤدي إلى نجاحها إذا وجدت أو فشلها إذا غابت . وهذا ينطبق على كل الثورات عبر التاريخ , ولا تخرج الثورات العربية المعاصرة ( ثورات الربيع العربي ) عن هذه القوانين وتلك السنن ولا تحيد عنها .
وعمليتا الهدم والبناء تميزت بها كل الثورات الناجحة سواء تلك التي ثارت على الظلم والاستبداد والفساد الداخلي كالثورات الفرنسية والروسية والإيرانية ..... , أو تلك التي ثارت على التفرقة العنصرية والتمييز بين الأعراق والألوان كالثورات التي حدثت في جنوب أفريقيا وزيمبابوي ( روديسيا سابقاً ) ... , أو تلك التي ثارت على الاحتلال الأجنبي كالثورات الجزائرية والفيتنامية والهندية ..... أما إذا اقتصرت الثورة على هدم النظام القديم وعجزت عن بناء نظام جديد , أو طالت عملية الهدم بحيث تهدد بنيان المجتمع وأركانه وأسس تعايشه المشترك , أو استعجلت بناء النظام الجديد دون أن تقضي على عناصر قوة النظام القديم , فالفشل مصيرها المحتوم .
وهذا الفشل في تحقيق أهداف الثورة لا يشكك في مبرراتها الأخلاقية وقضياها العادلة وأسبابها الحقيقية المرتبطة بتراكم الظلم والاستبداد والفساد والفقر والتمييز ... , ولكن هذا لا يعطيها صك عفران مفتوح للنجاح , هذا النجاح المرتبط بتحويل الهدم إلى بناء , وهذا بدوره لا يتم إلا إذا تحققت شروط النجاح وسنن النصر وقوانين التغيير , وأهمها ضرورة وجود الروح الثورية الإيجابية البناءة التي تحّرك الشعب وتدفعه للتضحية . وكذلك أهمية وجود فكر ثوري متجانس – وليس بالضرورة أن يكون متطابقاً – يوّحد قيادة وكوادر الثورة في الحد الأدنى المطلوب للانسجام . ووجود التصور الموّحد للبناء المُراد إقامته على انقاض البناء القديم الذي يعبّر عن امتلاك مشروع وطني محدد . ووجود أهداف مشتركة لكل قوى الثورة وفصائلها يُراد تحقيقها .
أما اذا تحّولت الروح الثورية إلى حالة هياج سلبية هدّامة , تحّرك الشعب نحو الانتقام وتدفعه للتخريب . وتحّول الفكر الثوري إلى أفكار متناقضة , يقود حامليها إلى أن يلعن بعضهم بعضاً ويكّفر أحدهم الآخر ويخوّنه . وتحّول التصور الموّحد إلى تصورات متنافرة وأوهام متضاربة وخيالات مشوشة . وأصبح المشروع الوطني المحدد والواضح مشاريع ضبابية ينقض بعضها بعضاً وينفي أحدها الآخر . أما الأهداف المشتركة المفترض وجودها فذهبت أدراج الرياح ليحل محلها أهداف خاصة حزبية ومذهبية وعرقية ومناطقية , تبحث عما يفرّق الناس ولا يجمعهم , وتسعى عما يشتت المجتمع ولا يوّحده .
وهذا ما حدث في معظم الثورات العربية المعاصرة التي لم تنجح في تحقيق أهدافها – حتى الآن على الأقل – فتعّرضت بعضها لثورة مضادة أعادت النظام القديم بوجه جديد . وبعضها الآخر تجاوزت عملية اسقاط النظام إلى اسقاط الدولة وتفكيكها والعودة إلى عصر ما قبل الدولة . وتحّولت ثورات أخرى إلى حرب أهلية طاحنة , أكلت الأخضر واليابس , وهدمت الحجر والشجر , وفتحت الباب على مصراعيه للتدخلات الخارجية . وتم حصر بعضها في الإطار المذهبي , واستيعاب بعضها الآخر بالتهديد والترغيب أو بالعنف تارة وبالرشوة تارة أخرى أو بتقديم بعض التنازلات التي تبقي النظام القديم وتمد في عمره , وفي أحسن الأحوال إقامة نظام توافقي بين القديم والجديد , وفي كل الأحوال تم القضاء على جوهر عملية التغيير الثوري وروحها .
وفي الختام لا بد من التأكيد على أن التاريخ لم يقل كلمته الأخيرة بعد بانتظار انتصار الشعوب العربية المظلومة على جلاديها , ونيل حريتها وكرامتها وتحقيق نهضتها وتقدمها وتفجير طاقاتها وإبداعاتها, وكل ذلك سيتحقق عندما تتجاوز هذه الشعوب الثائرة مرحلة الهدم إلى مرحلة البناء وتزيل كل العقبات التي تقف في طريقها بعبقرية البناء التي لابد أن تمتلكها لتتفوق على عبقرية الهدم .