العدوانية الحمقاء تدفع المنطقة نحو الحرب الكبرى:
الأزعر والبلطجي مغلولا اليد!
بقلم: د.محمد نعيم فرحات
منذ أمد بعيد موغل في القدم، بنى الغرب عموما، والقوى المتنفذة فيه خصوصا ، موقفا عدوانيا إزاء العالم العربي والإسلامي، قام على سوء فهم مقصود ومنحرف، تولت الاعتقادات والأفكار المشوهة المدعمة بالممارسات الخاطئة تحويله لسوء فهم مقدس، ثم قامت هيئات ومؤسسات عاتية على غرار مؤسسة الاستشراق الانجلو سكسوني –تحديدا- بإعادة إنتاجه وتنميته وتصعيده وتأكيده أو كما يقول إدوارد سعيد "تحويله لمصاف ممارسة ثقافية صلبة"، وحدها فقط، الأمم الممتلئة بذاتها، تجنبت هذا المنزلق على غرار ما فعل الألمان و"بعض" االاستشراق الفرنسي .
لا، لم يسبق لأمة أو طرف أو جهة أو إمبراطورية، أن اهتمت بثقافة أخرى مثلما اهتم الغرب بالثقافة العربية الإسلامية وحامليها، على نحو مشوه وغاشم وظالم عموما، وقد وفّر بعض " المحسوبين قهرا وزورا" على الثقافة العربية الإسلامية وهم كثر كغثاء السيل، ما يدعم وجهة نظر الغرب المصممة سلفا عن العرب والمسلمين، هنا ليس من المثير في شيء، أن المحسوبون زورا على العروبة والإسلام هم بالذات حلفاء الغرب الموضوعيين وشركائه في التشويه، وقد تجنب الغرب عن قصد، وعن وعي خبيث، التعامل مع البنيات الحقيقية والأصيلة التي تمثل جوهر الثقافة العربية الإسلامية الحقيقية والقادرة على بناء الشركات المجدية والمتينة.
وهذه العدوانية عبرت عن نفسها قديما وحديثا، بصور وأشكال مختلفة امتدت من التصورات والتمثلات إلى الوقائع ، وإذا كانت حروب الفرنجة نموذجها القديم، فإن عملية استعمار العالم العربي بعد تفكيك الامبرطورية العثمانية قد كانت نموذجها المتجدد الذي واصل الموروث القديم وأضاف له فصولا كثيرة، وصل لذروته عبر مساهمة الغرب الحاسمة في إقامة دولة إسرائيل في قلب العالم العربي والإسلامي وفي صميم جغرافيته وروحه معا ، ولم يدخر الغرب ذاته جهدا في رعاية إسرائيل فكرة فدولة فسياسات وتدعيمها وتوظيفها. إسرائيل التي يرى أديب ديمتري بأنها تمثل "ذروة العدوان الغربي على الشرق".
وعدوانية الغرب وغرائزيتها ولؤمها، هي المعطى الذي يفسر الخلفية الحاكمة لفهمه وتعامله مع المنطقة وشعوبها وقضاياها، وفي هذا السياق استخدم الغرب العقل بصورة سلبية ومدمرة، معادية للمنطق السليم، حتى من زاوية تحقيقه لمصالحه الحيوية ، كما كان استخدامه للعقل على خصومة مع الموضوعية، لان الموضوعية تفترض من الغرب طريقة أخرى في التعامل، تضمن له مصالحه المشروعة وتحققها على نحو أدوم وأفضل وأحسن وأليق ومقبول ومتوازن، وبفهم ممارسات الغرب من هذه الزاوية يمكن العثور على كل ما من شأنه أن يدين عقله العدواني، ويكشف عن تناقض أخلاقي وفكري وسياسي فادح، يقوم داخل منظومة تفكيره، يكشف عن مدى فساد رؤيته وسلبيتها، وهنا يصبح من الطبيعي أن نرى المنطق السليم والموضوعية في رؤية الأشياء وفهمها كضحايا لهذا الفساد.
كما أن العدوانية اللئيمة ذاتها ، هي التي تفسر موقف الغرب المعادي على نحو حاسم، للنزعة التحررية الاستقلالية ومن حاملها في المنطقة، التي قامت في حواضر العرب تحديدا، من جمال عبد الناصر والحالات التي سبقته،أو من الانعتاق الجزائري، أو من دولتي البعث في سوريا والعراق أو من تحرير اليمن، أو موقفه من الحقوق الوطنية للفلسطينيين، التي كان الغرب الماكر يرى نتائج مساهمته الحيوية في تحطيمهم كشعب، دون أن يرف لعقلانيته المدعاة جفنا، وادعاءاته عن الديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.
و في كل لحظة أو موقف يرتبط بالمنطقة وقضاياها برهن الغرب على سقوط أخلاقي للمنطق الذي يعتمده ضد النزعة التحررية لشعوبها والحركات التي مثلتها ، علما وأنها حركات لم تطلب سوى ممارسة حقوقها الطبيعية المشروعة ، ولم تشكل تهديدا لأحد، ولم تطرح مساسا بمصالح أحد، طالما أنه لا يمس مصالحها وعواطفها ويحترم طموحاتها، ولم تطالب بغزو أحد، بل طالبت الجميع بكف يدهم عن إيذاء شعوب المنطقة واستغلالها واستباحتها، ودعت الغرب حصرا نظرا لاعتبارات عدة، لعلاقة سوية متوازنة، تلبي المصالح المشتركة، وتقوم على الاحترام. ورغم ما كان توفره هذه الخصائص من فرص للغرب لتعديل أخلاقه وتصويب نظرته للمنطقة ولشعوبها، إلا انه أبى، وكان تكفيريا( بالمعنى السياسي و الثقافي والفكري) في هذا الصدد .
ورغم أن الغرب ذاته، ناهيك عن إسرائيل بالطبع ، كان يرى حجم المتغيرات الحاصلة في المنطقة بحكم مفاعيل عدوانيته في وعي المغلوبين والمظلومين وضحايا سياسته، وما ترتب عن ذلك من مقاومات ، إلا انه لم يجنح لتعامل عاقل معها ، وعوض اختياره للتفاهم مع القوى التحررية التي تحمل مشروعا تحديثيا له علاقة بالعصر تمادى في عدائيته من جهة ، وعزز روابطه وحمايته لتركيبات تقليدية محلية متخلفة أو مشتبهة لا تمت للعصر وقيمه بصلة، ودعم حضورها كضامن ضعيف لتحقيق مصالحه ورؤياه ومواقفه، وأخيرا أفصح عن روابطه المتعددة مع التطرف والإرهاب ومنتجيه وحاضنيه، كأدوات يستخدما لتدمير المنطقة وحواضرها، كما ظل يمعن في تدعيم إسرائيل حتى وهي تتحول إلى عبءٍ ومأزق.
وتكشف صيرورة الصراع المركب المتواصل بين عدوانية الغرب من جهة والمقاومات المتعاقبة في المنطقة ضدها من جهة أخرى عن تحولات ذات مغزى سيكون لها أثرها العميق ،إذ يلاحظ بأن عدوانية الغرب والوعي الذي يقف ورائها تتحول من عدوانية لئيمة إلى عدوانية حمقاء وعبيطة وغبية وقاصرة عن التكيف العاقل مع ضغوطات الواقع، حافظ الغرب فيها على تعامله القديم الذي لم يعد نافعا مع متغيرات المنطقة الجديدة، بينما كانت المقاومات المتتالية والمتراكمة في المنطقة ترث بعضها بعضا وتتجاوز نواقص التجارب السابقة، وقد بلورت بعد نموذجها المُجربِ في ميادين الصراع، والذي أظهر بأنه غير قابل للانتكاس أو الانكسار ، كما برهن على أنه يتعاط مع المشهد بوعي عميق وبأدوات تناسب اللحظة ويحشد ويوفير شروط التواصل والانجاز ذهنيا وماديا. ومنذ وقت ليس قصيرا أصبح زمن المنطقة واحتمالاته يتغير في غير صالح القوى النافذة في الغرب، وفي غير صالح إسرائيل، ولكن الوعي الحاكم فيهما لا يريد أن يرى ذلك، وبل إنه يزود منطق العدوان بقوة التكفير.
وفي المنعطف الخطر الذي تعبره المنطقة والعالم، الذي يمكن وصفه بانة الاخطر منذ الف عام، تجري معارك الحشد والتمكين والتخندق الإيديولوجي والنفسي والمادي جنبا إلى جنب مع المعارك الفعلية ، وتتواجه على نحو قاس ومركب قوتين، لهما امتداداتهما المحلية والاقليمية والكونية، قوة التحرر والانعتاق الساعية للتحكم الحر بالمصير مقابل قوة الهيمنة والاحتلال المستندة الى غباء العدوانية وحماقاتها ولؤمها.
وفي هذا السياق يمكن أن نفهم مثلا ، كيف أن الاعتداء على الصحيفة الفرنسية لم يفضي بفرنسا- التي لم تكن بحاجة لبيان دموي في شوارعها- لمراجعة السياسات الخاطئة والعقيمة والموتورة التي انتهجتها إزاء المنطقة وشعوبها وقضاياها. كما يمكن أن نفهم كيف ان تضخم الارهاب والتكفير في المنطقة الذي تم برعاية وتوظيف غربيين لتحقيق مأربه فيها، والذي بات يرتد في نحو أو اخر على صانعيه و يقوم بجولات أفق في عواصمهم، ألا أن لأمر لم يفضي بالغرب ذاته، لمقاربة مختلفة للمشهد في المنطقة. وفي هذا الاطار نستطيع ان نفهم، كيف غباء القوة هو الذي قاد إسرائيل لعملية القنيطرة، التي استدرجت لها مهانات إستراتيجية مباشرة و بعيدة المدى والاثر، دون أن تضع العملية كما سابقاتها حدا من أي نوع للمخاطر التي تهددها .
****
إن البيئة الإستراتيجية في المنطقة تشهد تبدلات عميقة تتبلور في سياق منظومة من المعارك ونيرانها المتدة في اتجاه يتفاقم من معركة لأخرى، يحد من قدرة الغرب واسرائيل معا على التصرف بالقوة الهائلة التي بحوزتهم ويضعهما في كنف ضائقة عميقة ، حيث لم يعد بمقدورهما الاستباحة والبطش بدون حساب وأثمان.
وعلى نحو او اخر، يمكن معاينة كيف يعود الغرب "كأزعر" للعالم وإسرائيل "كبلطجي" في المنطقة ويداهما مغلولتان من حيث القدرة وليس من حيث القوة. بينما التاريخ الماكر، والمفترسين الكثر، والصاعدين الى حقهم، يملؤون المساحات ويغتنمون ضعف القدرة وفرضيات الفشل الغربية الاسرائيلية الاقليمية المتحالفة، ويوظفون نتائج العطب البنيوي العميق الذي لا شفاء منه الذي يحكم نظرة الغرب للمنطقة وشعوبها وحقوقهم.
وفي المعارك المترامية والمتنافذة على مسرح حواضر العرب تحديدا ، من سوريا الى العراق الى لبنان الى مصر فاليمن، وملف ملفات المنطقة المتمثل في المسألة الفلسطينية وصولا الى ايران فرهانات روسيا والصين، تتكاتف المعطيات التي تجعل من الحرب الكبرى ضرورة لحل قضايا المنطقة ، حرب تقوم عبر معارك متعددة لا ينقصها سوى اطلاق النيران الموسع والشامل والمكثف بين المتحاربين بالجملة، ووصولها إلى الفصل الحاسم، وفي هذا المنحى بالذات تلعب العدوانية الحمقاء وممارساتها دورا رئيسيا في تسعير الحرب واستقدامها وتسريعها.
وفي تدرج المعارك المختلفة نحو الحرب المركبة وتحولها الى "أم معارك" صياغة العالم جديد، سيكون الاندحار الثقيل للطرف الخاسر بالنقاط، كما سيكون الفوز المكلف للرابح أيضا بالنقاط، بيد انها حرب تقول مؤشرات الواقع بان الذي سيفوز بها، هو الطرف الذي يتمتع بالمناعة الوجودية، وبالأحقية وبالإيمان، وصاحب الخيال الاستراتيجي والارادة والتصميم الذي يوظف المعرفة والمهارة والقدرة في اطار اخلاقي ، وسيخسرها اصحاب العدوانية اللئيمة والحمقاء الذين لم يروا الشرق يوما كما هو وكما يرى نفسه ، بل كما صمموه وغربوه عن نفسه وعن سجاياه.
*كاتب واستاذ جامعي من فلسطين