نشر بتاريخ: 12/05/2015 ( آخر تحديث: 12/05/2015 الساعة: 13:57 )
الكاتب: سري سمور
حينما مزق مشيعون الكفن كاشفين عن الجثة، كنوع من التعبير عن الحب والحزن والولاء، شعرت بفطرتي أن هذا الفعل غير لائق ولا يجوز...حدث هذا صيف 1990م أثناء تشييع جثمان الخميني، ورافقه حالات تدافع أسفرت عن مقتل عدد من المشيعين...وقتها لم يكن التوتر الطائفي كحالته اليوم، وبغض النظر عن كل شيء؛ فإن الخميني ليس فقط عالم دين، بل هو قائد سياسي، أقام نظاما على أنقاض حكم الشاه محمد رضا بهلوي، واستطاع إحداث ثورة في المذهب الجعفري الإثني عشري بطرح فكرة ولاية الفقيه وتطبيقها عمليا، مع تأييد واسع لدى أتباع المذهب، ومعارضة لا تذكر عند المرجعيات الشيعية، بعكس من كان قبله أو عاصره أو جاء بعده وحاول طرح فكرة مختلفة عما يعتبر من ثوابت المذهب.
تمزيق الكفن عن جثة ميت حزنا وكمدا عليه لا يمكن أن يكون عملا مقبولا شرعا أو عقلا، ولكن كان يمكن للرجل وهو على أعتاب الموت، أن يمنع ذلك بوصية متلفزة أو مكتوبة لأتباعه ومريديه، لا سيما وأنه يدرك طبيعة قومه وأتباع مذهبه من حيث تعلقهم بالأشخاص حد القداسة...لكنه لم يفعل فكانت النتيجة إهانة لجثمانه بدعوى الحزن على فراقه!
تذكرت هذه الحادثة وأنا أستشعر حالة التعصب الناجمة عن تقديس الأشخاص، وما ينجم عنها من مشكلات كثيرة على مختلف الصعد، وأدرك أن مناقشة الأمر كوني بدأت بهذه الحادثة قد يدخلنا في سياق الحديث عن طبيعة المذاهب والمدارس الفقهية والفكرية، كون بعضها من ديدنه المغالاة في الأشخاص، وبعضها الآخر ليس كذلك، ولكن الأمر يظل نسبيا، والمغالاة والتقديس لا تأخذ الطابع ذاته عند جميع المدارس والمذاهب ولكن هذا لا ينفي التقديس عن فئة دون أخرى، بل شكل التقديس يختلف...وأتحدث بالتحديد عن تقديس العلماء والمبالغة في ذلك، لأن ثمة ضوابط محكومة بنصوص تتعلق بتقديس الأنبياء وتحريم الغلو فيهم، و والزجر والنهي عن فعل ذلك، ولأن حالة القداسة التي ينالها القادة السياسيين والعسكريين في بعض المجتمعات تظل في إطار محدود؛ مثل أتاتورك في تركيا، وزعيم كوريا الشمالية، فهذا التقديس المقزز يظل في إطار قومي وجغرافي محدود، ولا يحمل إشارة لاختلاطه بالدين، وهو بالتأكيد غير جائز شرعا وعقلا ولكنه ليس موضوع مقالتي.
والغلو والتقديس لبعض الصحابة وأفراد من آل البيت لا يخفى علينا ما جرّه من مشكلات وأزمات نرى مضاعفاتها في زماننا، فهناك من وصل بهم الحال إلى تأليه علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- أو اعتبار قاتله الغادر عبد الرحمن بن ملجم –عليه من الله ما يستحق- مخلصا للاهوت من الناسوت!
وقد تسبب الغلو في علي في انتهاج بعضهم ما يقلل-ولو بحسن نية- من شأنه ومكانته نكاية بمن غالوا فيه، مع أن متبعي هذا النهج ينفون ذلك...والغلو وضده لا يليق بعلي ومرفوض بطبيعة الحال.
وبعض الطرق الصوفية تقوم بأعمال توحي بتقديس شيوخ الطرق في حياتهم ومماتهم، بما لا يجوز أو لا يليق، ولكن غالبية هؤلاء الذين يحظون بتقبيل الأيادي أحياء، والتبرك بالقبور والتوسل أمواتا يغلب عليهم أنهم من العابدين والزاهدين، البعيدين نسبيا عن الحياة العامة، وليسوا غالبا علماء من أصحاب الفتاوى، وإن كانوا علماء فليس لهم نتاج فقهي أو فكري إجمالا.
أرى أن الخطورة في الغلو في العلماء والمفكرين لا تقل عن الغلو والتقديس لغيرهم ؛ وأول ضرر لهذا الغلو يمس العالم والمفكر ذاته، حيث باسمه تقترف أخطاء وخطايا، خاصة بعد مماته، ولو كان حيا لما قبلها، إ ضافة إلى نفور من يرفض التقديس والتقليد الأعمى مما يكرهه بهذا العالم أو المفكر فيشهر سيف العداء له، ولو كان سبق له محبته واتباعه على بصيرة...وإذا كان أهل السنة وهم عموم الأمة لا يوجد لديهم نظام المرجعية الدينية، التي تلزم الأتباع بالتقليد والالتزام، فإن لهم كثيرا من العلماء الذين يأخذون برأيهم وفتاويهم، في شؤون فقهية وسياسية، ولو اختلف الأمر عن الصورة الموجودة عند الشيعة بطبيعة الحال.
وتقديس العالم أو المفكر ليس بالضرورة سلوكيا، بالتعامل مع شخصه بطريقة معينة كتقبيل اليدين أو التمسح بثيابه، أو ميتا بالتبرك من قبره، وجعل القبر ضريحا ومزارا، بل ربما هذه الأمور تكون أقل خطرا حينما يأخذ التقديس طابع التقليد الأعمى واعتبار رأي هذا العالم صوابا لا يقبل الخطأ، وأصلا وما عداه فرعا، بل قولا مردودا ولو كان يحمل الدليل والحجة، واعتبار أي نقاش لرأيه بمثابة الطعن في الدين نفسه.
وقد ينفي من يقوم بفعل التقديس عن نفسه ذلك، ويتحفك بكلام جميل وصحيح من قبيل:لا عصمة إلا للمعصوم...كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب القبر...وتقديس الأشخاص مرفوض مهما بلغت سعة علمهم لأنها تظل في إطار الاجتهاد...إلخ، ولكن هذه الأقوال الجميلة تبدو في زماننا حبرا على ورق وكلمات عابرة لا تعبر عن حقيقة الممارسة الفعلية، فقائلها من المقدسين يأخذ رأي العالم الذي يراه محل ثقة مطلقة على أنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويتعصب لرأيه ويدافع عنه بكل ما أوتي من قوة، رافعا شعار أن دليله أقوى وأنه أعلم من أصحاب الآراء الأخرى!
ويكون التعصب مضاعفا إذا كان العالم في حالة خلاف في مسائل معينة مع مدرسة فقهية أو فكرية أخرى حيث يعتبر من يناقش أو ينتقد رأي هذا العالم تلقائيا منتسبا أو مؤيدا أو في أفضل الأحوال ميالا للمدرسة المخالفة، وإذا كان للعالم مشكلة أو خلاف مع جهة سياسية معينة فإن التهمة الجاهزة لطالب مناقشة الرأي هو أنه من أتباع أو أنصار تلك الجهة، فتضيع الحقيقة.
ومؤخرا شنت حملة واسعة ضد فقيه عاش قبل قرون هو أحمد بن تيمية الحراني بسبب أعمال عنف يزعم من يمارسها أن مرجعيته هو فتاوى ابن تيمية؛ وهنا المشكلة معقدة ومركبة، لأن ابن تيمية كانت له خلافاته مع بعض السنة مثل الأشاعرة(مع أنه يثني على الأشعري في بعض كتبه) إضافة إلى موقفه من شيعة عصره، ونعلم ما كان عليه حال الأمة في زمانه من فتنة واضطراب وغزو التتار، وعليه فإن رأي وفتاوى ابن تيمية يجب ألا تخرج بالمطلق من ظرفها الزماني والمكاني، وأيضا يجب ألا يكون ابن تيمية ضحية جهل الأتباع والمقلدين والمعجبين، حيث وصل الأمر ببعض من كرهوا فعلهم إلى الدعوة إلى إحراق كتب ابن تيمية، بل ثمة سلطات منعت تداولها رسميا...فهل يحاكم ابن تيمية المتوفي سنة 1328م بأخطاء تحاول التجمل باسمه في 2015م؟هذا لا يجوز من الناحيتين:أي التقوقع داخل صندوق فتاوى وآراء كانت خاصة بأحوال معينة قبل حوالي 700 سنة، والدعوة إلى نبذ الرجل وعدم الأخذ برأيه بالجملة نتيجة جهالة بعض الأتباع...وبالطبع تقع المسئولية الأكبر هنا على عاتق الأتباع والمحبين.
ولا يتسع المجال لكثير من الأمثلة ولكن لو أخذنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب مثالا لما يفعله الأتباع لرأينا الرجل قد حُمِّل ما لا شأن له به خارج زمانه ومكانه، فالشيخ رأى في عصره بدعا وخرافات انتشرت في جزيرة العرب، حتى وصل الحال ببعض النسوة في بلدته إلى التوسل بفحل النخل:يا فحل الفحول أريد زوجا قبل الحول، وهاله ما رأى من التبرك بالقبور ومظاهر شركية، لا ينبغي السكوت عليها، بل هناك من استحل بعض المحرمات، وهناك من قال أن فريضة الصلاة سقطت عنه، فانبرى محاربا لهذه المظاهر المنكرة؛ وأصاب حيث أصاب وأخطأ حيث أخطأ، في ظرفه الزماني والمكاني، وما لديه من علم وفقه مشهود بسعته، ولكن المشكلة أن الأتباع ما زالوا يحدثونك عن بدع وخرافات انقرضت وانتهت وكأن حالنا حال جزيرة العرب في زمان الشيخ، وهذا ما يسببه الأتباع من أذى لشيخهم، حيث قال بعض المناوئين لهم أن هناك مذهبا هو المذهب الوهابي، وهي مقولة غير صحيحة، لأن الشيخ حنبلي المذهب، وطريقة الأتباع المتعصبة تخالف حتى نهج الشيخ ابن عبد الوهاب، لأنه كان إذا ترجح دليل الشافعية مثلا عنده أخذ به وهو الحنبلي.
والسؤال الذي يجب أن يطرح على كل من يقوم بفعل وينادي برأي متسلحا بمحفوظات يرددها عن عالم رحل عن دنيانا قبل زمن طويل:أولو كان هذا الشيخ الجليل بين ظهرانينا ورأى ما في الحياة من تغير، أكان رأيه سيكون ما تقول؟
والمفكر الذي أحدث اختراقا معينا وكانت له إسهاماته خاصة في المجال السياسي، وصار على حافة القبر، يجب ألا يكون تحليله للواقع السياسي بمثابة النص المقدس، كونه قد قدم إسهامات سابقة في هذا الشأن، نظرا للتطورات المتسارعة، وكون قراءة المفكر للواقع نابعة حكما من تراكمات ظروف كانت في عصر مختلف...فيظل تحليله قابلا للأخذ والرد والنقاش، لا أن يرد على كل من خالفه أو ناقش رأيه أو حتى رفضه بالقول:من أنت حتى تناقش رأي هذا المفكر الألمعي، الذي هو من هو في السبق في عالم الفكر السياسي، بينما أنت قد لا ترقى كي تكون تلميذا صغيرا عنده...هذا قمع فكري، ويسيء للمفكر نفسه، لأن كراهة ونفورا سيصيب قلب من يريد مناقشة رأيه.
و ما يواجه به منتقد عالم الدين فهو أصعب، وهي مقولة منسوبة لابن عساكر الدمشقي لحوم العلماء مسمومة واعتبار هذه المقولة حكما شرعيا لا اجتهاد فيه، وكأنه آية قرآنية واضحة الدلالة، أو حديثا نبويا ثابت الصحة سندا ومتنا...ولا أدري هل كان ابن عساكر- المتوفي قبل أكثر من 800 سنة- لو عاش في زماننا ورأى ما حل بالعلم والعلماء سيقول مقولته تلك أم لا؟ فكل سيعتبر علماءه كذلك، الدول والمؤسسات والأحزاب، ويفرض على كل باحث عن الحقيقة أن يصمت...وهناك توسع في مفهوم المقولة ذاتها حيث يعتبر رد رأي أو نقاشه غيبة وهجوا وقدحا وتهجما على قائله، وليس على القول ذاته...ولو كان الأمر مقصورا على الحفظ والمذاكرة فإن محرك البحث جوجل في عصرنا لم ولا يتغلب عليه إنسان في المعلومات كما ونوعا!
وهناك من الفقهاء الأحياء من لهم مكانة وإسهامات كثيرة، ولهم آراء سياسية، ولا مانع في ذلك من أي ناحية، ولا يجوز أن يقال للفقيه:لا شأن لك في السياسة، في الوقت الذي يسمح لأي كان أن يدلي بدلوه في الشأن السياسي، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة الظاهرة؛ فالفقيه حينما يتدخل في الشأن السياسي خاصة في مجال التحليل، وليس الإفتاء بقضية سياسية محددة، قد يكون متأثرا بذهنيته وطريقة استخراجه للأحكام الفقهية، وهي طريقة فيها مثالية وضوابط مختلفة عن الأمور السياسية، أو قد يحكم على السياسة ومتغيراتها وألاعيبها ومكر معظم العاملين بها، وفق ما يجب أن تكون، ووفق ما أمر الله تعالى أن يكون حال السياسة والساسة، وليس وفق الواقع الفعلي القائم، وهنا قد يقع الأتباع والمريدون، ومن يأخذون بفتوى الفقيه في خلط، بحيث يتقبلون رأيه وتحليله السياسي على علاّته، ويتعصبون له، ومع الزمن تختلط الأمور، وقد يحكم على علمه وفقهه من بعض الناس بالخلل نتيجة قراءته السياسية التي يظهر عوارها.
والفقيه الذكي الناشط في السياسة من ينجح في الفصل بين الأمرين، فقد يكون له من الناس من يأخذ بفتاويه في مجالات الحياة اليومية، ولكن لا يأخذ برأيه السياسي، والعكس صحيح، وقليل هذا الصنف في زماننا...أما إذا سمح للأتباع بالتعصب لكل ما يصدر عنه، والمغالاة في اتباع رأيه في أي شأن كان حد التقديس المستفز، فهو الخاسر على المدى المتوسط والبعيد.
ومن دلائل التقديس التي أراها أن علماء ومفكرين لا يوجد ردود تناقش طرحهم من المحبين أو الأتباع الذين ينفون عن أنفسهم صفة تقديس الآراء الصادرة عن هؤلاء العلماء، مما يثبت أن ثمة تلق وقبول لا شك فيه لهذه الآراء صوابا كانت أم خطأ، ولا أتحدث عن مناكفات المبغضين أو المنتسبين لمدارس منافسة فأولئك من الطبيعي أن يكون تعصبهم في الاتجاه الآخر؛ أي الرفض لرأي العالم فلان والمفكر علاّن فقط لشخصه المبغوض عندهم.
الأتباع بجهالتهم يسيئون للعلماء المتبعين لهم، وهم يظنون أنهم يحترمونهم ويقدرونهم فقط، وهؤلاء العلماء يجب أن يحاربوا التعصب لهم، خاصة أنه لا يخفى عليهم مكانتهم عند الأتباع، فينبغي التوازن لأن الإنسان مهما أوتي من عقل راجح، يظل الخطأ من صفاته اللازمة.