الكاتب: د.غازي حمد
(1) فراغ الفشل
نحن كمن يحمل سلته كل يوم الى السوق متبخترا ثم يعود بها فارغة , ليس بها من شيء ليطعم أولاده الجوعى!! الى الان فان نتائج حل الازمات لدينا يقارب الصفر, ان لم يكن في مربع السالب !! ثم يأتي الاعلام المراهق لينقذنا من (فراغ الفشل) بتصريحات اغلبها غثاء ,لا تحمل مضمونا ولا تطعم خبزا , ويكثر الحديث عن (الخيارات) و(البدائل) و (التهديدات) و(الوعودات) دون أدنى رصيد من المصداقية !! ما يزيدنا رهقا انه فوق هذه الازمات تأتيك رياح الهرطقات/البطالة السياسية, المخجلة والمضحكة, مثل مسرحية (انفصال غزة), وكذبة (الحوارات السرية بين حماس واسرائيل ).... وتجد من الكتاب والمحللين من يعومون على (شبر) هذه الترهات وتلك البلاهات !! وحينما (نغسل أيدينا) من قصص الحكومة والمصالحة والمنظمة والانتخابات (نفش غلنا) في (ضريبة التكافل ) فتصبح عنوان المعركة /الحالقة /الشاغلة للأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الانسان !! حالة فوضوية غير مسبوقة !! ان الحياة في ظل الازمات أنتجت الكثير من الامراض المزمنة ,النفسية والسياسية والاجتماعية , وتحولت الحياة الى معاناة حقيقية ,تقتل الانتماء وتخلق العداوات.
اعجب ان الفلسطينيين -المشهود لهم بقوة العقل والارادة - يفشلون في معالجة قضايا (صغيرة ) مثل توحيد المؤسسات الحكومية والموظفين (وهي قضايا فنية ادارية ) , ويفنون زمنا من اعمارهم في معالجة هذا القفل الصدئ بمفتاح صدئ : يتعبون ويعرقون دون أدنى نتيجة !! , اذن أخبروني -بالله عليكم- كيف سيحلون المشاكل الكبرى : تحرير فلسطين وبناء الدولة وعودة اللاجئين ؟ أليس هذا مدعاة للدهشة..بل مدعاة للخجل ؟! نحن نجهل مفهوم الادارة العلمي لمعالجة الازمات ,القائم على المنهجية والعقلانية والمعلوماتية والمرحلية ,والبحث عن الحلول الوسط وتفهم كل طرف مطالب الطرف الاخر.. لا نعرف كيف نفاوض بعضنا على أساس من الثقة ومساعدة بعضنا البعض في فتح الممرات المغلقة.. لا نعرف كيف نعمل بصمت وصبر دون ضجيج اعلامي الى ان نصل الى النهاية.!! بل ننحى منحى مخالفا: نشك بسرعة , نمل بسرعة , نتهم بسرعة ,ثم ننتكس بسرعة , ثم نقطع شعرة معاوية !! وهذا معناه دوما وابدا : اطالة امد الازمات وتسمينها ثم خروج الكل خاسرا !! لماذا الى اليوم تبقى جريمة ابقاء كل القضايا معلقة بلا حل وبلا أمل ؟؟ ان سياسة توزيع الاتهامات والتهرب من المسئوليات وشغل الاعلام بالتصريحات (الحربية ) والتهديدات الجوفاء لم تعد تحرك في الناس شعرة.. ربما تشغلهم قليلا في المجالس و(الشقوق) ثم تعاودهم الالام والاوجاع.
الناس يريدون حلولا ولا يريدون كلاما...يريدون نتائج ولا يريدون عنتريات !! لدينا طرفان مسئولان لا ثالث لهما: حماس وفتح (وتحت مظلتها الحكومة والرئاسة) ؟؟ كل منهما له حججه في اتهام الاخر!!. أي قاض جرئ يمكن ان يفصل بينهما بالحق بعد سنوات من الجدل والاختلاف ؟ دون ذلك ستبقى الحلقة مفرغة وسنظل ندور في متاهة سريعة و(مدوخة ). لست مع هؤلاء المدمنين عن الحديث عن المصالح والحسابات الاقليمية ,لأنها كلها قصص (فارغة) لا ترقى الى الدليل والمنهج العقلي, وكما قررت من قبل في مقالات سابقة : قصصنا أبسط من ذلك بكثير !
(2) المفتاح بيد الرئيس
كان بإمكان الرئيس- الذي بيده مفتاح المصالحة- أن يتخذ خطوات جدية لتحجيم المشاكل ومنعها من التفاقم من خلال اعطاء توجيهات فاصلة باستكمال ملفات المصالحة (لا ينتظر ورقة من حماس بالانتخابات), وللحكومة بتحمل مسئولياتها بشكل فعلي في غزة. مع الاسف فان الرئيس, وبسبب خلافه الحاد مع حماس, تكونت لديه صورة شديدة السواد منعته من رؤية الامور بنظارات حقيقية وصافية , والتعاطي بجدية مع مشاكل غزة , واعتبر وكأن حماس هي "الشيطان" الذي يحول غزة الى جحيم أسود !! ويبدو ان الرئيس وقع تحت تأثير عدد من المحيطين به والتقارير المضللة التي جعلت امكانية استمرار المصالحة أقرب للمستحيل وتفعيل الحكومة امرا شائكا.
الرئيس – من موقع مسئوليته عن الشعب الفلسطيني – يجب ان يتحلل من الكثير الشكوك والهواجس ومن التردد ,ويبادر بقوة الى "تشمير الاكمام" ويعطي من وقته اكثر للوضع الداخلي , لأنه ان ظل البيت الفلسطيني على هذا الحال فلن تنفعنا لا مسيرة سلام ولا محكمة جنايات ولا حتى الزيارات المكوكية التي لا تتوقف.
غير مسموح للرئيس أن يترك الحالة الفلسطينية معلقة وتائهة , بلا مستقبل سياسي وبلا استقرار داخلي !! يجب أن يسمع من الكل ويشاور الكل ويتحرك وبفرغ نفسه حتى ترسو السفينة ويطمئن الناس.. لا عذر للرئيس أن يدير ظهره للمشاكل !! الرئيس (ومن خلفه حركة فتح ) لم ينجح للان في اثبات جديته في معالجة مشاكل غزة. هناك مماطلة كثيرة في التعاطي مع هذه الازمات. ومن السهل ايجاد الاعذار: حماس لا تريد .. حماس تماطل .. حماس تشكل حكومة ظل !! وعلى هذا تمر السنوات دون ادنى حراك , وكأن البعض وجد في هذه الاعذار فرصة للتهرب واغراق حماس في مشاكل غزة.
ان الرئيس قد قصر كثيرا في معالجة مشاكل "بيته " الفلسطيني ,وحتى بيته الفتحاوي, وتركه عرضة للازمات والذبحات السياسية والاجتماعية ,ولم ينجح- ايضا في اثبات مقدرته ان يكون "أبا " للعائلة الفلسطينية ,يجمعها على "حصيرة " واحدة ,يرتق ما خرق ويجمع ما تفرق. لا ابالغ ان قلت ان الرئيس يعيش في عالم "اخر", يدور بين العواصم ويقف امام الكاميرات فيما بيته من الداخل يحترق ! ان هذه أحدى الطامات الكبرى في دوران الازمات الطاحنة !!
(3) الحكومة بين المطرقة والسندان
لا احد يحسد الحكومة على المأزق الذي وقعت/أوقعت فيه !!. ورغم اني اجد عذرا للحكومة في بعض الاحيان بسبب الظروف المعقدة التي تحيط بها ,الا انه كان بالإمكان ان تتخذ بعض الاجراءات التي تمكنها من بناء جسور الثقة وتحقيق بعض الانفراج , فيما لو تحلت بشيء من الجرأة والمتابعة وتبني خطة واضحة في معالجة مشاكل غزة.
كان بإمكان الحكومة أن تتقدم وتمسك بكافة الصلاحيات – بما فيها المعابر-من اليوم الاول لتشكيلها و"تمشي " مصالح الناس الى حين ترتيب اوضاع الموظفين فنيا واداريا (وما كان لحماس أن تمنعها من ذلك. على سبيل المثال, موضوع الموظفين والمعابر, الذي سبب صداعا داخل المجتمع الفلسطيني ,كان موقف الحكومة منه مترددا ومرتبكا وبلا خطة واضحة, وكان بالإمكان معالجة هذا الملف بسهولة من خلال العديد من الطروحات التي سيقت في هذا الشأن لكن للأسف اضعنا نحو سنة ونحن (نخض في المية) دون ان نتقدم خطوة واحدة. ان الحكومة تتحمل جزءا من المسئولية في تفاقم الاوضاع في غزة بسبب تركها الوزارات معلقة :بدون تعليمات , بدون اتصال , وبدون نفقات.
ان بعض الوزراء أدار ظهره لوزارته في غزة منذ تشكلت الحكومة, وبعضهم يرفض اعطاء نفقات تشغيلية, وبعضهم لا زال يعيش على مبدأ "الشرعية واللاشرعية " , ثم تبنت الادعاء بأن هناك "حكومة ظل,وهذا هو العور بعينه!! في جولة اخرى ,استبدل الرئيس حركة فتح بالحكومة , ووضعها في مواجهة حماس وورطها في تلبس قضايا لم تكن بالأصل من مهامها بحسب اتفاقات المصالحة , مما أوقعها في مأزق كبير , فهي حائرة بين مطالب حماس وضغوط الرئيس وحركة فتح. .وللحق فان حماس – في ظل هذا الفراغ- حاولت معالجة الكثير من مشاكل غزة ودفعت من جيوبها وميزانيتها لتغطية حاجات الحكومة سواء الرواتب او النفقات التشغيلية ,وتعاطت مع طروحات مرنة للخروج من الازمة.
(4) حماس وفن المعالجة والاخراج
حماس تقول انها التزمت بالمصالحة وقدمت تنازلات كثيرة واعطت (الجمل بما حمل), لكن الرئيس وحركة فتح تنكروا لكل استحقاقات المصالحة, ثم تنكروا للموظفين ,وتنكبوا كل (التفاهمات) التي جرى التوصل اليها مع ممثلي الحكومة, فضلا عما تسوقه حماس من شواهد على محاولات السلطة اشغالها بالمواجهة مع الحكومة وتشويه صورتها امام الدول العربية من خلال تقارير استخبارية واحاديث مباشرة من الرئيس نفسه. ومع ذلك , فان حماس لم تستطع انتزاع حل واحد من سلسلة الازمات مع الرئيس او حركة فتح منذ تشكيل الحكومة 2006 وحتى 2014 , وظل هذا المسلسل يزداد ويتفاقم.!!. الاسئلة التي تطرح نفسها على حماس: لماذا لم تنجح للان في معالجة هذه الازمات او بعضها ؟ هل افتقدت حماس القدرة على ايجاد بدائل أو طرق ابداعية للمعالجة ؟ هل غاب عن حماس أن تغير من اساليبها التقليدية التي درجت عليها منذ 2006 والتي ثبت ان كثيرا من هذه الاساليب لم يجد نفعا ؟ وهل قامت بتقييم /تقويم ادارتها للازمات بشكل مهني كنوع من المراجعة الذاتية لمعرفة أسباب الخلل ؟؟ وهل استطاع ابو مازن وحركة فتح مشاغلة حماس طوال هذه الفترة وادخالها في متاهات ومسارب الحكومة والموظفين والرواتب والمعابر والكهرباء واستنزافها على مدى سنوات ؟؟.. هل من مصلحة حماس ان تظل ابواب الازمات(الجبهات) مفتوحة مع الرئيس وحركة فتح والحكومة الى ما لا نهاية؟ ليس لدى أي ادنى شك ان حماس جادة في التعاطي في انجاح مسيرة المصالحة وانجاح الحكومة ومنحها كافة صلاحياتها في القطاع , لكن تكمن مشكلة حماس الرئيسة في "فن المعالجة والاخراج " , والمقصود به معالجة الازمات بشكل احترافي ومهني يفضي الى تحقيق نتائج ملموسة.
ليس مطلوبا من حماس فقط شن الحملات الاعلامية والاثبات ان ابو مازن او فتح او الحكومة هي المسئولة عن مسلسل الازمات القائمة, ولا يكتفى منها بسياسة "تعرية "الخصوم , بل المطلوب منها تقديم بدائل وخيارات واقعية قابلة للحل والتطبيق..مطلوب من حماس الا تنتظر المبادرة من الطرف الاخر بل يجب أن تكون صاحبة مبادرة , وذلك من خلال مظلة وطنية واسعة. ان سلوك حماس في معالجة الازمات ينتابه الكثير من الشك وردات الفعل والاندفاع وعدم الثقة بمن يحاورها , مما يضطرها الى الغوص في النصوص اكثر مما تركز على الجوانب العملية للعلاج. حماس ربما لديها مما تقوله من حيث انها (مقروصة ) من طرف الرئيس ومن حركة فتح والحكومة , لكن هذه الخلفية يجب الا تمنع حماس من "الانطلاق " بقوة والتحلل قليلا من هذه الهواجس المربكة. أيضا, فان احدى اشكاليات حماس في الازمات هي انها تظهر وكأن المشكلة خاصة بها وحدها وليست مشكلة المجموع الوطني , وهو ما يجب ان يدفعها لتحويل هذه الملفات الى ملف وطني عام. من المطبات التي تقع فيها حماس دوما انها تلجأ الى الاعلام كسلاح رئيس في اي مواجهة , وهو اعلام متسرع , غالبا ما يلجأ الى اللغة الحادة الهجومية التي تحرق كل المراكب وتقطع شعرة معاوية , وهو ما ثبت انه يأتي بنتائج عكسية.
ان تصريحات بعض القيادات تعكس حالة اشكالية وسلبية في الشارع ,بل تعطي رؤية معاكسة تماما لما عليه السياسة العامة , ويصور الحركة وكأنها "تتشبث بمقاليد الحكم " أو انها "حكومة ظل فعلية " وبعضهم ينجرف بعيدا في تصريحاته التي لا تمت للواقع بصلة !! للاسف ,حماس ليست خبيرة في المناورات واساليب الالتفاف ولا في ممارسة الدهاء السياسي , بل يغلب عليها التوجهات المباشرة – واحيانا الصادمة – , مما يفقدها القدرة على تحصيل مكاسب وانجازات ملموسة ,ويمنح خصومها فرصة واسعة لاستفزازها وادخالها في "مشاكسات " لا تنتهي , وهي نقطة ضعف يجب معالجتها. ان حماس بحاجة الى تغيير تكتيكاتها في التفاوض واستبدالها بأفكار واليات غير تقليدية تقوم على تبني منهجية دبلوماسية هادئة وتراكمية, أكثر عمقا وذكاء في معالجة الازمات. وقبل ذلك كله ,خلق جسور ثقة تمكنها من تسويق رؤيتها بشكل افضل , كما ينبغي عليها "تهذيب" اعلامها وتحويله الى اعلام ايجابي قادر على طرح حلول واجتذاب الاخرين اليها بلباقة وحنكة.
(5) لا بد من نهاية
نريد الخروج من زمن السنوات العجاف/الازمات الى زمن فيه يغاث الناس وفيه يعصرون!! أخشى أن نصل الى مرحلة التأزم وهي نقطة اللاعودة ويصبح الوضع فيها معقدا نتيجة لوصول الازمة الى ذروتها.!! نحن بحاجة الى أطباء مهرة (عقلاء) لديهم من الحنكة والحكمة والصبر وطول النفس ما يفتح الله على ايديهم هذه الاقفال الصدئة. اعلان: "من وجد في نفسه الكفاءة فليتقدم وأجره على الله" !!