السبت: 21/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

تراتيل العودة في ذكرى النكبة

نشر بتاريخ: 15/05/2015 ( آخر تحديث: 15/05/2015 الساعة: 10:11 )

الكاتب: د. نايف جراد


1. مفاتيح الصدور

كم ابحث عن لغة تسعفني
لأحكي روايتي التي لم تنته فصولا
لأنقل القهر الذي يعتمل في الصدور
ولا زال يختلج في جوانحي منذ سبعة وستون عاما
سأكبت هذا الأنين
ساقبض على رعد الامنيات
وساقضم جنوح الحنين
اجتاح نار الشوق بناري
لينساني الشرود
وينساني انتظاري
وسأذهب الى انتحار القدور
سأعود الى بيتي
إلى الجذور
خلف تلك الابواب الموصدة
ترتقب الينابيع تدفقها
تنتظر الحقول صهيل الروح
و لا زالت مفاتيحها معلقة بالصدور


2. أثري الباقي

نعم انا من هناك يا بني
ذكرياتي لم تزل ندية
احملها في عيوني
ولوني ويداي الخشنتين
ووجهي المجعّد
احضنها بقلبي
اسكبها في روحي
ويقتلني الشوق
هنا اسمي
هنا نقشي
وهنا وسم الخالدين
في ذاك الرمل الممتد من التل الى البحر
زرع جدي القمح والبطيخ والبرتقال
في تلك الأرض التي زعموا أنها صحراء قاحلة
كانت تتدفق الينابيع
وتكيف ابن عمليق مع طبيعتها
عشقها
فعشقته وفردت جداءلها
أبرزت مفاتنها
وأنجبت شعيرا وقمحا كفى كل العباد
وهم بمياههم المسروقة
وكل غربهم الحضاري
لم ينبتوا نخلة في الصحراء
ولم يخضروا دونما رغم كل الأساطير
نعم ، أنا من هناك
أنا من هنا
من هذا الصلب البليغ الخصيب
ابن هذي الأرض المقدسة الملعونة
زرعت النخيل والزيتون منذ فجر التاريخ
حفرت بيدي الصخر
وبنيت بيتا عامرا
وقصورا تتطلع الى السماء
فصارت مسكنهم
بعد أن سرقوا الفضاء
هنا كانت شمسي مشرقة
كانت شمسي تشرق يوميا من الشرق
لم تشرق أبدا من غربهم
وهناك في الوادي اقترب مني القمر
فطبعت قبلة على جبينه
فأمسك بيدي في الطرقات
دلني على سبيل الهداية
فجر ينابيع الأرض في مده
سقاني زمهريرا
وانبت البساتين والبيارات
سطر الحياة
لم أكن نجسا
ولا نحسا
طاهرا كنت
أحمل الحظ والسعد لمن يرافقني
لم أعرف البغضاء يوما ولا الحروب
أحببت جميع البشر
كنت كنعانيا طيبا
كنت آراميا بسيطا
كنت عربيا كريما
كنت ولا زلت فلسطينيا عاشقا حتى النخاع
فاستغلوا كرمي و طيبتي ومحبتي و شردوني
فسافرت في التراب
لكني تركت اثري كي لا أحرج السائلين



3. وجد الأمنيات

تهرب اللغة من وصف فجيعتي
تتسمر الحروف على نكبتي
ويتدفق الناي حزينا في الشتات
قالوا ستعود
فتهت في البراري
ولم ألق مخلصي
بحثت عن قدري بين النجوم
لم أجد غير الصمت
فرحت أنادي كي يسمعني الأموات
لم يبق شكلا للموت إلا وزارني وزرته
مت هناك تحت ركام البيت الذي قصفته طائراتهم
قتلت برصاص حقدهم
سقط في وعورة طريق اللجوء
مات جدي عطشا في صحراء الغربة والمنافي
ومات جاري في هبوب العواصف وأمواج البرد والصقيع في خيم البؤس والشقاء
وماتت جارتي حسرة على ابنها المفقود
استشهد أخي في أقبية السجون والمعتقلات
وفي مراكز تحقيق الأخوة الأعداء ذقت كل طعم للمنية
جوعا مت
مرضا مت
فقرا مت
غرقا مت
قهرا مت
علقت على أعواد المشانق
وتطايرت أشلائي في الحقول
ولكني بقيت رغم الموت
رغم الغول
وركبت السكون
أمسكته من خناقه
وتعربشت على خيط النور
وخرجت من نفقي الأسود
ولقيت زيت الزيتون
أوقدت مشعلي
صادقت نفسي في مقالع الشمس
ورحت أزرع الخلاء
وكاد يقتلني البلاء
لكني لم أمت
وظل الرجاء
حملت حبي لكل عواصم العرب
لقاهرة المعز ودمشق الياسمين
لبيروت الحب وجزائر الشهداء
لتونس وصنعاء والخرطوم
حملت حبي لبغداد والرياض
جبتها كلها من عمان إلى الدار البيضاء وحتى نواكشوط
رحت عميقا إلى أدغال إفريقيا وأقاصي آسيا
لجأت لكل القارات
لكني لم أبع أرضي
ولم أقبل بوطن بديل
وعدت أحط رحالي على شواطئ جزيرة العرب
أتكئ على تاريخ قديم لأجدادي
انتظرت طويلا حتفي اللامنتظر
وانتظرت الأغنيات
ورحت أجوب سماء الضباب
اغني الأحجيات
أتعالى بنصي على بؤس الحياة
وامضي إلى حتف سفري
امضي إلى فجري
واحمل وجد الأمنيات
فكم مرة سأموت ؟
وكم مرة سأعود ؟
وكم مرة ستغتالني الكلمات ؟


4. أكباد الأرض

من وادي النسناس في حيفا
من حي العجمي في يافا
من بقايا الجامع والكنيسة
من بقايا السور في مدن الجنان
من حيث احتسبوا او لم يحتسبوا
سأطل في شقائق النعمان والنرجس
سأزحف كشجيرات الشيح والعليق
سأتفجر كالينابيع
وسأعود
نعم سأعود
سأعود إلى صفد
والى بيسان
إلى حيفا وأم الريحان
إلى صفورية ودير ياسين
إلى طبريا وحطين
والى عيلبون وهونين
إلى أبو كشك وصبارين
إلى أم الزينات والكفرين
إلى المسمية وبيت جبرين
إلى اللد وعسقلان
إلى كل مكان
سأعود
أكباد الأرض تتورم تحت قلاعهم الإسمنتية
تنزف شرايينها تحت الحدائق
تصرخ أحشاؤها تحت أقدام الجنود
وتئن روحها تحت صرير الجرافات والمجنزرات
نعم سأعود
سأخرج من جنبات الأرض
من نارها سأخرج
من سنديانها وخروبها
من سدرها وصبارها
من صدرها وبطنها وصلبها
سأخرج من تحت تحت مدينة النور
من بقايا المسجد الملطخ بعارهم
من حجارة الكنيسة التي تمردت عليهم
ولا زالت تخرج منها روائح البخور
و تسمع فيها تراتيل النور
سأخرج من أنهارها
من برها
ومن أعماق البحور


5. عودتي والفجر

منذ الفجر وصلاتي عشق لها
ركعاتي تمارين هيام في حبها
سجودي خشوع في حضرة بارئها العظيم
فلن تخرجني أيها الغريب من هذا الفضاء
لن تقصيني عن حيز البقاء
سأهزم برد أغواري وصقيع مغاراتي المهجورة
وسأعتلي صهوة الريح
وأركب شهوة المطر
سأقيم لعبة التجلي بمفتاح إرادتي
وانظر متهكما الى فجيعتي في مرايا اللجوء
واحمل وجعي في يدي وقدمي
ولن تنام عصافير شوقي في المخادع الوثيرة
سأعبئ مناقيرها بذكري خصوبة البلاد
وأطعمها بذور الحياة لتنثرها على ذاكرة العباد
وسأركب طيور الشوق لأحط في بستان معشوقتي
وفي يوم ما سأقتل القتل
وسألعن الحرب
لأعيش لحظة سلام
وأدفن الآهات
وأستنشق عبير حريتي
واغني أجمل الأغنيات
وأعود لذاتي
لتعود الحياة
فالعودة حقنا
العودة حياتنا
والفجر آت
الفجر آت