السبت: 21/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

مفاتيح الشاعر الكبير

نشر بتاريخ: 26/05/2015 ( آخر تحديث: 26/05/2015 الساعة: 20:39 )

الكاتب: المتوكل طه

الشعر الكبير يصدر عن مأساة ما، لها ما يشبه الأحداث الاسطورية، أو أن هذه الاحداث تتعمق وتتلون لتصبح أسطورية تدعم مأساتها، وهكذا يصبح الشعر كبيراً بالحدث الكبير، ويتحول الحدث الى كبير بالشعر الكبير .

ويبدو أن ذلك صحيحاً دائماً، أو في معظم الاحيان، وكأني بالشعر لا يقبل هذه العادية ولا هذا المألوف حتى في التفاصيل التي تعصف بنا جميعاً . ويمكن أن يُصاغ الكلام السابق بلغة أخرى، ذلك أن الشاعر الكبير يَنْقَضُّ على واقعه ويَنْقُضُهُ، ويحيل ركامه الرمادي المهشم والمهدم الى بنيان مدهش لا يمت الى الواقع الأول بصلة، وكأن ميلاد الشاعر ايذانٌ بالتحول، وكأنه الحجر المتيقظ يُقذف وسط بركة راكدة، فنكتشف الأمرين معاً، الحجر الذهبي والبركة الآسنة، هكذا هم الشعراء الكبار دائماً، يضيئون ما حولهم، يكشفون ويدمرون، ويرممون، ثم يمضون، إن الجروح التي يفتحونها وتلك التي يداوونها تشكل فتحاً آخر من فتوح الروح على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي كذلك .

ما الذي يفعله الشاعر الكبير بنا؟!
ما الذي يضيفه الى معارفنا؟!
ما الذي يهزّه في وجداننا؟!
ما الذي يعمّقه داخل انفعالاتنا؟!

ببساطة، إنه يُجمّع حكاياتنا الصغيرة ليؤلّف منها الحكاية الكبيرة التي تجمعنا معاً، وهو يكتشف فينا المشترك والعام والأصيل والحقيقي والجميل بكلمة أخرى، إنه يكتشف الجماعة فينا، ويكتشف اجمل ما في تلك الجماعة من خصائص، وهو بحفره عميقاً في تجربته انما يقوم عملياً بعملية حفر معرفية وجمالية ونفسية في اعماق اعماق جماعته، وهو بهذا انما يقوم بعملية من امتع الرحلات واكثر المهمات تعباً وجمالاً، لأنه يعيد جماعته الى نفسها، ويضيء حاضرها بماضيها، ويزاوج بين أرواح اسلافها واحفادها، ويؤلف بين تاريخها ومكانها، ويصوغ العلاقة الأبدية ما بين الجماعة ورؤاها واجتهاداتها الروحية والعقلية داخل شرطها الزماني والمكاني .

والشاعر يفعل ذلك من منطلق الانتماء لجماعته ولا أقول الحب بمعناه العاطفي او الاخلافي . الانتماء شعور لا علاقة له بالحب او الكره او الاخلاق اصلاً . الانتماء مجموع قوة الاسلاف وقوة المكان وقوة الارادة معاً، وأكاد أقول إن الانتماء تخلقه اللغة وما فيها من دلالات جمالية وروحية ترافقنا منذ وعينا الأول الذي يبقى فينا الى الممات .

باختصار، الشاعر الكبير يعيد إلينا ما نسيناه عن أنفسنا، وما تصورنا أننا لم نعد نحمله أو نتميز به أو نعتد به، وينبهنا الى ما يمكن أن نصير إليه أو نحققه، إنه يكتشف المهمل فينا، المهمل الذي لا نريد رؤيته، والمهمل الذي لا نستعمله، المهمل الكريه، والمهمل الجيد، وبهذا يتحول الشاعر إلى دليل اثبات للجيد ودليل إدانة للكريه في الوقت ذاته.

بهذا المفهوم فإن أقوى مفاتيح النقد للشعر هي تلك المفاتيح التي ترى الاطار العام الذي تخفق فيه القصيدة؛ أقصد ذلك المفتاح الذي يرى المسافة بين القصيدة / الذات والقصيدة / الجماعة، بين القصيدة الممكنة والاخرى المتوقعة، بين ما يقال عنا وبين ما نتوقعه عن انفسنا، اقول ذلك لأن الشعر لا يخرج عن لغته، واللغة لا تخرج عن مكانها ولا عن دلالاتها، وبهذا المعنى فإن الشعراء يختلفون كما هو شعرهم، ولا ينقص هذا من الشعور الإنساني، بل على العكس، فإنه يعمق المفهوم ويزيد من تراثه، ويعني هذا ان الشعر ابن جماعته التي يصدر عنها ويعبّر عنها، مهما ادعى البعض ان الشعر انساني يخرج عن طور خصوصيات المعرفية والمكانية والتاريخية، ان ما يفرق بين ابن حمديس الصقلي ووردز وورث - وكلاهما هام بالطبيعة وتجلياتها - مرجعياتهما الروحية والجمالية اللتان صيغتا من خلال لغة مختلفة حملت تاريخاً ودلالات مختلفة . لا يمكن للشعر أن يتحول الى رموز رياضية مكتفية بذاتها. الشعر اولاً وأخيراً دلالات وإحالات، والدلالة كما الإحالة تحتاج الى تاريخ روحي ومزاج صاغه المكان والجهد .

والشعر يفشل عندما يفقد البوصلة، ويقطع الصلة بالتاريخ والتجارب المتراكمة والرموز المثقلة، وبما انجزته روح الجماعة على مدى كينونتها .

والشعر يفشل عندما يتمثل بتجربة أخرى، ويستحضر رموزاً بعيدة، ببساطة، الجماعة تُسقِط من حسابها من لا يأخذها بحسبانه، وتلغي من يلغيها، وتشطب من يشطبها، هذا قانون، ولو لم يكن هذا القانون صحيحاً لكان هوميروس أحد شعراء العربية، ولأصبح المتنبي أحد شعراء الأُمّة الانكليزية .

وأعود الى أدوات النقد الهامة للشعر الكبير فأقول إن من أقوى المفاتيح أيضاً لفك مغاليق النص، ذلك المفتاح الذي يرى في الشعر اجمل وانقى واصفى جماليات الجماعة التي تقدسها وراكمتها خلال القرون، الشعر الكبير يصنّف اسس الجمال بأشكاله المختلفة؛ اللغوية المعمارية، البصرية والسمعية، المعنوية والمادية .

إن مثل هذا الشعر يعيد تخليق اشكال الجمال في كتل سمعية وبصرية، معتمداً على خيال نظيف غير مهشم او مدمر ولا مُدّعى، خيال فسيح ممتد لا واهم ولا مريض، ومن خلال هذا الفضاء نرى ونلمس ونسمع كيف تبدو اولوياتنا الجمالية وهي تُبنى من جديد على يد شاعر كبير .