نشر بتاريخ: 28/05/2015 ( آخر تحديث: 28/05/2015 الساعة: 11:08 )
الكاتب: د. مجدي شقورة
كثر الحديث مؤخراً عن المشروع (الغائب - الحاضر) أو (القديم - الجديد) والذي يُعرف باسم "دولة غزة"، واللافت هنا هو أن الحراك السياسي المرتبط بهذا المشروع (والذي تدعمه الولايات المتحدة بشكل واضح) هو حراك علني، ولا يدور في الغرف المغلقة فحسب، والنقاش بشأنه (على الأقل إسرائيلياً) يحتمل واحداً من تفسيرين، إما الضغط على الرئيس محمود عباس من أجل تمرير اتفاق تسوية "هزيل" بدعوى قلقه من انفصال غزة عن الوحدة الترابية للوطن الفلسطيني، وإما عزل غزة عن المشروع الوطني الفلسطيني، تمهيداً لتمرير مخطط قديم يُعرف باسم التقاسم الوظيفي في الضفة الغربية بين إسرائيل والأردن والكيان الفلسطيني، وفي كلتا الحالتين يبدو الأمر مقلقاً ويحمل معه أسباباً وجيهة لتداعي كل النخب السياسية الفلسطينية لرفضه والتصدي له.
تجري نقاشات معمقة في الأوساط الغزية (كل الأوساط) بشأن فكرة "استقلال غزة"، ولسان حال المستويات غير القيادية والتي لا تحمل مواقفها تبعات على المستوى القرار وعلى مستوى الفصيل، أن حال غزة بائس ويدعو للبكاء ومستوى حياة الناس في القطاع متدني للغاية، وتحيط بهم الأوجاع من كل حدب وصوب، وتطال الهموم كل أوجه حياتهم، صحة وتعليم وبنية تحتية وبيئية ومياه وكهرباء، إلى جانب تآكل القدرة الشرائية للمواطن ومشكلة البطالة المستفحلة وإغلاق المعابر ومنع الحركة للأفراد، إضافة إلى الحصار الذي يضرب كل أوجه حياة الغزيين، ومع وصول أكثر من ثلاثة أرباع السكان إلى ما هو دون خط الفقر تصبح الحياة في غزة شبه مستحيلة إن لم تكن مستحيلة بالفعل، والبديل الوحيد المتاح للشباب في غزة هو "فرصة هروب" يندفعون بها حاملين "تحويشة العمر" من أجل ركوب البحر، علهم يصلون إلى مرفأ أوروبي آمن أو تبتلعهم مياه البحر ويريحون "ويستريحون"!!، ومن هنا يُطرح أمر الانفصال الذي يحمل معه ولو بصيص أمل بتحسن شكل الحياة على أنه خيار عملي ومشروع أمام أهل غزة، باختلاف فصائلهم، على قاعدة أن العيش بانفصال وبمستوى معقول خير من وحدة وطنية وترابية تحمل معها الموت في كل وقت وحين.
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه بقوة، على طاولة الرئيس محمود عباس، الذي يعتبر المسؤول الأول والأخير عن وحدة التراب الوطني ووحدة الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، والذي يتمتع بسلطات وصلاحيات كانت كبيرة للغاية وأصبحت مطلقة في ظل الانقسام، والذي يرأس أهم الهيئات التي تتولى أمر الفلسطينيين في الوطن والشتات، فهو رئيس دولة فلسطين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيس حركة فتح التي تتحكم في مفاصل الحياة السياسية الفلسطينية، هو ما الذي ينبغي عمله حتى نوقف مشروع دولة غزة، هل نكتفي بإدانة وشجب الحوارات غير الرسمية بين حركة حماس والحكومة الإسرائيلية؟، أو هل نكتفي بالشعارات الكبيرة عن وحدة الوطن الفلسطيني، وأن رفح مثل جنين وغزة مثل نابلس؟، وهل يتوقف الأمر عند الحديث الدائم الذي يأتي على النسب المئوية التي يتم استقطاعها شهرياً من الموازنة لمصلحة قطاع غزة، فيما لا يشعر المواطن الذي لا يتلقى راتباً من السلطة الوطنية بجدوى هذه النسب ودلالتها لا على مستوى الأسعار ولا على مستوى الصحة ولا على مستوى البنية التحتية ولا على مستوى مكافحة الفقر؟، أم نظل نتحدث عن أن ظروف الانقسام هي التي حالت وتحول دون النهوض بواقع قطاع غزة وإعادته بقوة الشرعية المبنية على الإنجاز إلى صدارة المشهد الوطني؟، في الواقع إذا كانت هذه هي الإستراتيجية الوحيدة التي ترى القيادة الفلسطينية أنها الأنجع في مواجهة ما يسمونه "مؤامرة فصل غزة"، فعندها يمكننا أن نقول وراحة الضمير تملأ أفئدتنا وقلوبنا أن مسألة الانفصال باتت مسألة وقت ليس إلا!!.
من يريد، يا فخامة الرئيس، أن يبقي غزة مرتبطة ارتباطاً وجودياً ومصيرياً وبعروة وثقى لا انفصام لها، عليه أن يراجع حساباته جيداً، ويفتح الملف الخاص بقطاع غزة بكلتا يديه، ويشرع في فحص آليات التشغيل في القطاع العام لشباب قطاع غزة وخريجيها، وأن يفحص مستويات التدخل لتحريك عجلة التنمية في قطاع غزة، وأن يراجع بنفسه برامج التشغيل المؤقت لعمال قطاع غزة، ويبحث آليات البناء المؤسسي في غزة، وأن يراجع كل ما قدمته الحكومة الفلسطينية على مدى ثمانية أعوام في سبيل تجهيز بنية تحتية في القطاع المظلوم والمحاصر والمغلوب على أمره، وأن يناقش الآليات المتبعة لتسهيل حركة الموطنين على المعابر وإجراءات السفر وسبل التيسير على المرضى والطلبة للتنقل وحرية الحركة والوصول إلى الأماكن التي يسعون إلى الوصول إليها، وأن يتابع بنفسه الآليات والإجراءات التي لجأت لها السلطة الوطنية في عهده من أجل تعميق الوحدة الوطنية وتعزيز التلاحم بين الضفة الغربية والقدس من جهة وقطاع غزة من جهة أخرى، وفقط نعطي مثالاً واحداً عن الواقع الذي سبق تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية لنعرف ما الذي "أضفناه" لتعميق وحدتنا الجغرافية، ففي أعوام الثمانينيات كان عدد طلاب جامعة بيرزيت نحو 1800 طالب، منهم 600 من قطاع غزة، أي نحو ثلث عدد الطلاب، يا ترى اليوم وعدد طلاب هذه الجامعة قد بلغ نحو 12000 طالب، يا ترى كم عدد طلاب قطاع غزة اليوم في بيرزيت؟، الرقم الذي يمكن معرفته بسهولة سيعطي مؤشراً قوياً على الحالة التي وصلنا إليها، بعد أن كنا مجتمعاً فلسطينياً أصبحنا مجتمعات!!
من جديد نعود ونؤكد أن قطاع غزة ليس ملفاً على طاولة صانع القرار الفلسطيني، والذين "يُفتون" في الشأن الغزي كُثر، حتى أولئك الذين لا ينتمون فكراً ولا تأطيراً لحركة فتح أصبحت لهم أصوات يسمعها المسؤولون الفتحاويون في الضفة الغربية، ناهيك عن اعتبار معظم قضايا سكان غزة اليومية هي أمور يسبقها إجراءات أمنية معقدة، وكأن غزة كلها أصبحت مجموعة تقارير على طاولات قادة أجهزة الأمن، فهل يمكن لتجمع سكاني يضم 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة أن يتم التعامل معهم على أنهم مفردات في تقرير أمني؟.
الرئيس محمود عباس الذي حقق إنجازات دبلوماسية غير مسبوقة، والذي تمكن من وضع الحكومات الإسرائيلية في الزاوية في أكثر من محطة على الصعيد الدولي، وحده القادر على إعادة المسار الطبيعي للعملية الوطنية والسياسية، وإعادة ضخ الدم الحار في الشريان الوطني من رفح إلى جنين مروراً بالقدس، وهو وحده القادر على إجراء عملية المراجعة اليوم وليس غداً، عندها ربما نتمكن من وقف عربات قطار الانفصال الأبدي، أو نكون قد دفعناها بأيدينا دفعاً حتى تذهب إلى محطة اللاعودة التي تنتظرها، فهل نفعل؟؟!!.