الكاتب: تحسين يقين
أمل الغد، وغزة الجميلة، الوفاء والحكمة والوعي، وصوت فيروز، وجمال يطل مع اسمه!
هو القريب البعيد، أو لعله البعيد في المنافي التي تقاذفته، والقريب بدفء القلب، القادم من الزمن الجميل الذي ظل به جميلا.
عرفناه شاعرا أيام المدرسة، وما بعدها، وقرأنا فامتلكنا الأمل والمتعة الأدبية، بعماد السحر فيها، لغته المدهشة، دائمة الدهشة، فاحترنا كيف تنبع الكلمات بين شفتيه، فكفانا الاستمتاع البحث عن الأجوبة.
صوته الشاب رغم العمر يأتينا من كندا، في يوم تكريمه في رام الله، فيؤكد على شعره الحيّ، وقلمه النديّ، وحين يتلو القصائد يصير ثورة، وحين يتحدث نشعر بمشاعره الداخلية تفيض على حروفه صدقا وانتماء والتزاما.
ولي أن أعرفه عن قرب، وأحيا مع كلماته بشكل يوميّ، حين كنت محررا ثقافيا، فقلت وقتها: الآن صار لديّ ما أفخر به، وكانت كلماته فور ورودها بخطه الجميل تجد طريقها إلى الطباعة فور ورودها.
شاعر، قصائد ومقالات جديدة طازجة تصلني أسبوعيا من القاهرة، فأحتفل بالهدية، فأهدي للقراء تباعا، كل يوم، يزين شعره أو مقالته الصفحة الثقافية، فأزدان معه، وبها، ولو لم تكتب فيها كلمات أخرى لاكتفينا به.
شاعر حقيقيّ، شاعرية متفوقة على ذاتها، ولغة تنساب طيّعة بين يديه، فيجذبنا بشعره العموديّ، فرحت وقد تأثرت بالمذاهب الشعرية الجديدة في الشكل أتساءل عن هذه الظاهرة في شعره، وعن الشكل والمضمون، لديه ولدى بعض الشعراء، فعدّل الإبداع أفكاري النقدية لكاتب يتأهب لمغادرة العشرينيات، فكان له فضل في إنضاج ثقافتي الشعرية وكتاباتي النقدية، في ظل انفعال الشباب وتأثرهم بالجديد. وكانت النتيجة هي الانزياح نحو المضمون، وجمال اللغة والتعبير، وبأن شكل الشعر لا يتقادم، لكن الذي يتقادم هو المضمون؛ بمعنى هناك من يكتب الشعر الحرّ بمضامين تقليدية قديمة، ناهيك عن تعثر الأسلوب واللغة وبنية النص.
شاعرية فكرية بطول نفس أدبي، في ظل الشغف بالحياة، والاندماج في الهم، بغلاف جميل من الأمل، لعلنا هنا نختزل هارون هاشم رشيد بكلمة الأمل.
سنرجع يوماً إلى حينا ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا
فيا قلب مهلا ولا ترتم على درب عودتنا موهنا
يعز علينا غداً أن تعود رفوف الطيور و نحن هنا
وكاتب مقال ينافس شعره فيه، كيف يكون شاعرا كبيرا وكاتبا كبيرا!
في مقالات شاعرنا ما يؤكد على حضوره، فلا تمرّ حادثة خصوصا إذا لامست الهم الفلسطيني والقومي، إلا وجدت طريقها إلى قلبه وعقله. وهكذا تعرفت على هذا المبدع، حول ما يثيره، وحول منطلقاته الفكرية والشعورية، فصرت أتوقع أن أسمع منه، وصرت أتعلّم منه.
ولربما يكتب باحث يوما عن لغته الساردة بحثا أو دراسة، ولعل تفسير نبوغه اللغوي يعود أيضا إلى نظرية نقدية طورتها، وهي أن المضمون يخلق شكله، ويخلق لغته. فلو لم يكن مضمونه بهذه العقلانية وهذا الجمال والالتزام الإنساني، لما انساب شهدا لغويا.
لقد قادني الشكل إلى المضمون لدى هارون هاشم رشيد، وقادني المضمون إلى الشكل، فقرأت كلماته على عدة مستويات، منها قدرته على توظيف المعاصر من الأخبار والأحداث، فكانت مقالاته مقالات أدبية وثقافية وسياسية تدوم، لا تتأثر بذهاب الخبر. وهذا سحر آخر امتلكه الشاعر.
فهل كان شاعرنا شاعرا في الكتابة؟ أقصد هل وظف شاعريته في لغته المقالية؟ هذا مدخل لبحث آخر عن اللغة الصحافية أيضا، في ظل ما يعتريها من سطحية وركاكة وسرعة، وملل.
وهكذا من خلال كتاباته تعرفت وتعرّف القراء على الإنسان فيه!
وما أجمله من إنسان! ما أروعه!
مما لفت نظري خلال كتاباته النثرية، تجوالات الحنين إلى غزة، المدينة الجميلة، فرأيت غزة بعينيه ومشاعره وقلبه، أراني غزة كما لم يرني إياها أحد، فرغم إقامتي في مصر لمدة 4 سنوات مع زملائي الطلبة من غزة، إلا أن الشاعر الكبير كان ذا عينين منيرتين صحبنا جميعا في غزة، فكان نتجوّل معه، من هذا الحيّ إلى ذلك، وليس هذا فحسب، بل أرانا غزة الجميلة من زمن جميل، فرأينا عراقة المدينة وحضارتها ومدارسها ومراكزها الثقافية، مساجدها وشوارعها وأشجارها، بحرها، وشاطئها، النخيل الذي يعانق الزهر، يأخذ ببصرنا إلى أعالي المآذن، لتدور على قبابها، ثم تهبط كطيور النورس على صفحة الماء، موقعة أبيضها على أزرق الماء، فتشفّ النفس بهذه الشفافية.
وناس هم الحب أيامهم هدوء انتظار شجي الغنا
ربوع مدى العين صفصافها على كل ماء وهى فانحنى
تعب الظهيرات في ظلها عبير الهدوء وصفو الهنا
هنالك عند التلال تلال تنام وتصحو على عهدنا
فكانت غزة أكثر مكان أحببت زيارته؛ فكلما زارها صديق رحت أسأله عن الأماكن، فيقول متى زرتها، وحين أجيب بالنفي، يسأل بدهشة، فكيف عرفتها، فأقول أراني إياها هارون هاشم رشيد.
- الشاعر؟
- والإنسان المحب، العاشق..
- عاشق؟
- ألا ترى أن العاشق يطيل من وصف المحبوبة!
- .................!
- كان قلمه كاميرا، لكنها كاميرا من جنس آخر، كاميرا تصوّر، ومن مداد قلبه وذكرياته وعقله، يرينا ما لا نرى في الصورة، أو يعمل زوم عليها، ليزيل الغبار الذي غطى المدينة، فصارت شاحبة. إنه يعيد بناء غزة، بعد أن تفككت واغبرت مكانا وزمنا وفكرا.
- زدني!
- بل هو من يزيدك، ومنه تعلمت كيف أكتب عن الأمكنة، والأزمنة فيها، والإنسان.
أتذكر دوما ما كتبته عنه وعن مدينته التي ظل يحبّ، كانت مقالتي بعنوان "شاعر ومدينة"، وحينما قرأها في القاهرة، منحني ما أفخر به، مقالة يذكرني فيها، كواحد من أفضل من كتبوا عنه، لقد سررت بكلماته التي احتفظت بها بخطّ يده الكريمة، والتي نشرها، فتمنيت أن يقدرني الله يوما لأنجز عنه بعض الدراسات، أو لربما أجمع ما كتبه عن غزة، لنصدره في كتاب بعنوان المدينة الجميلة التي ستصير يوما ما كانت وأجمل!
ولي أن أتذكر أيضا بعض كلماته التي كان يرسلها مع كتابته، والتي تفيض أدبا وتواضعا ونضوجا وإنسانية ورقيا.
ولأن حديثه عن غزة عميق، فهو لا يقف عند حدود مدينة غزة الفلسطينية، بل لعله يمتد بها إلى المدن العربية، والتي اعتراها ما اعترى غزة من غبار وأتربة، في ظل رياح الخماسين الطويلة.
الشاعر والعاشق والإنسان، يدفعنا للتفكير بمستقبل المدينة، لنأخذ من الماضي ما يلزمنا للمستقبل، ونتجنب مرّ الحاضر وغباره. فهارون هاشم رشيد الفلسطيني والمصري أيضا والعربي الجميل والملتزم دائما، أوحى لنا برفق وأسلوب جذاب كيف نعيد اكتشاف الجمال والفكر، وكيف نعيد البهاء لأماكننا، وكيف يظل الزمان شابا بحيوية الفكر والتعليم والإعلام والثقافة واللغة.
سررنا بتكريم ملتقى مثقفي القدس للشاعر الكبير، فلعل التكريم القادم يكون الشاعر حاضرا فيه بيننا، ولعل المنظمين يجعلونه يوما دراسيا، يتم فيه تناول الشاعر، والكاتب، والصحفي (كاتب عمود متميّز) والمناضل، والمفكّر التنويري، فنقرأ فيه الزمان والمكان والإنسان والأمل، وعلاقته مع الكتاب والأدباء والفنانين خصوصا مع أخيه الشاعر علي هاشم رشيد، وحياته في غزة وخارجها، ومصادره الثقافية، وتكوينه الثقافي.
كندا الباردة تصير دافئة بك سيدي الشاعر الرقيق والثائر، بما يلائم المقام، فلعل من يلتقيك هناك تكون وطنه وأرضه معنى وروحا.
وأنت القريب منا، لعلك ترجع يوما إلى حيّنا ومعك رفوف الطيور كلها.
سنرجع خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى
بأن البلابل لما تزل هناك تعيش بأشعارنا
و مازال بين تلال الحنين وناس الحنين مكان لنا
فيا قلب كم شردتنا رياح تعال سنرجع هيا بنا
لقد طرزت حياتا الفلسطينية والعربية بأجمل ما يكون التطريز الفلسطيني، ولي أن طرزت مقالتي بقصيدتك التي غنتها فيروز منذ ستة عقود، كان ذلك في يوم خمسيني بعد النكبة، كان الحنين والأمل كبيرا، وعشت هذا العمر وأنت محتفظ بحنينك، فانتصرت به على الغزاة.
ولك المكان سيديّ، وأنت سيدّ من ساداته والزمان، بين تلال الحنين وناس الحنين، بيننا، وفي قلوبنا وعقولنا.