نشر بتاريخ: 08/06/2015 ( آخر تحديث: 08/06/2015 الساعة: 15:36 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
كثير هم الذين قابلتهم في فترات الإعتقال في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وجمعتني بهم صداقة حميمة، بيد أن بعضهم سكن ذاكرتي وشغل مساحة فيها ولم يبرحها. ومن الساكنين الدائمين في الذاكرة، شاب بملامح هادئة وهيئة تبعث في النفس السكينة والطمأنينة، كان في فترة اعتقاله يتوقد حيوية وعنفواناً، لكنه عندما يتحدث أو يتحرك أو يتخذ موقفاً، كان يتصرف ككهل مجَّرب حكيم. الكياسة كانت مصدر قوة "أمجد فرج" حيث ان تعبيره عن رأية تكثيف للوحة فنية متناسقه، متداخلة الخطوط والألوان وبدقة متناهية، كان يمقت الاستعراض ولا يتخندق في ذاته أو حولها، يفكر بغيره في الأكل والشرب والثقافة وباقي إحتياجات ومكوَّنات الحياة في الأسر، قبل أن يفكر بنفسه، مطبقاً دعوة محمود درويش الشعرية-الفلسفية "فكر بغيرك" بتلقائية ودون تكلف، ربما قبل أن يقرأ هذه الدعوة، لأنه استشفها ثم صاغها بمراس وتجربة شاب في رزانة واتزان كهل.
كانت عينه على الآخر لا يطمئن له بال الا اذا كان بخير. قال لي يوماً بعد أن انتهى من قراءَة عمل روائي ل "حنا مينه":- "تجّتاحني مشاعر كره وغضب أياماً، بسبب ظلم تعرض له انسان صنعه مينه روائياً، فالظلم مستفز حتى لو كان متخيلاً في الأدب، فكيف الحال في الحياة الواقعية؟".
كان يحب صوت "نجاة الصغيرة" مثلي، وكنا نسترق السمع إلى هذا الصوت الدافئ المريح المحمّل بالحب، من جهاز"ترانزستور" في احدى زوايا "الغرفة الإعتقالية"، وما ان تنتهي"نجاة" حتى نبدأ في تحليل اغنيتها "كلمات واداءً وموسيقى وتطريبا".
كان يقول: "ان صوت أم الوليد، يأخذني على جناحيه فأخرج بعيداً عن مربع الإعتقال، احلق فوق أماكن أحببتها طفلاً وشاباً واتوق للتجوال في رحابها، لكن "نجاة" هي الوحيدة التي تجعلني افعل ذلك رغم القيد". وقد علمت منه لأول مره أن الابن البكر ل”نجاة الصغيرة” هو"الوليد"، وكان يطيب له تسميتها ب"أم الوليد" احتراماً وتقديراً لصوتها وفنها.
تزامن إعتقاله مع إعتقال اخيه"نادر"، حيث الاختلاف في الطباع، فقد كان "نادر" مشاكساً يوظف ذكاءَه في نقاشات ومناكفات، طالما فرضت على "أمجد" عملاً استثنائياً في فض اشتباكات أخيه مع الآخرين وتطييب خواطرهم بعد ان يمطر الأخ الأصغر بمحاضرات مليئة بالنصائح والتوجيهات.
كان "أمجد" بالنسبة الى أخيه في الأسر الرفيق والأب، فقد شعر تجاهه بمسؤولية خاصة، فهما معاً عاشا مرارة الحياة الفقيرة في "مخيم الدهيشة"، وهو مثله افتقد الأم في سن مبكر، بعد أن رحلت عن الحياة، نتيجة مرض عضال لم يمهلها طويلاً.
تحرر"أمجد" وكوَّن اسرته الصغيرة، وانخرط في تحديات الحياة، يحاول أن يعيل أسرته، لألتقي في الانتفاضة الأولى وفي "معتقل النقب" بأخيهم الثالث "محمد" وهو شاب يتمتع بذكاء اجتماعي وقدرة خاصة في نسج العلاقات، ومنه تعرفت أكثر وأكثر على صفات ومواقف ل"أمجد" لم اكن قد عرفتها منه شخصياً في الإعتقال، لانه كان مقلا في الحديث عن نفسه.
اخوة خرجوا إلى الحياة من ازقة المخيم وشقوا طريقهم بعناد ورضعوا "الوطنية" من "علب الصفيح". وفي الإعتقال أخبرني "محمد" عن أخيه الأكبر "ماجد" الذي لم التقه في الاعتقال، بالرغم من انه اعتقل لسنوات، وهو اليوم يشغل موقعاً مهماً في السلطة.
لم يصل أمجد مرحلة الكهوله على المستوى الزمني "العمري" كما وصلها على مستوى الممارسة والسلوك في الإعتقال، لأن مرض "السرطان" لم يمهله طويلاً، فقد قطفه زهرة فواحة يانعة جميلة من بستان الشباب، ومضى مفعماً بالحياة التي أحب.
تذكرته بالأمس بينما كنت استمع إلى أغنية "نجاة الصغيرة" "اسألك الرحيل" ، تخيلته يستمع معي للأغنية ذاتها وفي التوقيت ذاته، تخيلته يهز رأسه طرباً ونشوة، ويحلل الكلمات والموسيقى ويستحسن أداء "أم الوليد"، لكنني اخترت هذه المرة عن سبق اصرار ان اعاند "نجاة" واخالفها في دعوتها وفي معنى اغنيتها، فلم اسأل "أمجد" الرحيل، بل سألته ورجوته البقاء في الذاكرة، سألته ان يستمر فيها ولا يرحل ابداً.