الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

لا سلطة الا للاحتلال

نشر بتاريخ: 19/06/2015 ( آخر تحديث: 19/06/2015 الساعة: 11:33 )

الكاتب: حيدر عيد

ان سيطرة ثنائية "فتح - حماس" المزيفة على الساحة النضالية الفلسطينية وتحولها، في نظر الطرفين، الى تناقض رئيسي واقعي تتم تعبئة كوادرهما عليه، وما يصاحب هذه الثنائية العجيبة من قائمة صفات يسقطها كل طرف على الأخر، ومحاولة تعبئة الجماهير في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة لصالح الطرف "الحاكم" فيهما، قد وصلت مرحلة لم يعد فيها المواطن الفلسطيني العادي الذي يعاني ويلات الاحتلال والاستيطان والأبارتهيد والحصار قادرا على التحمل. وتلعب سلبية وتبعية الفصائل الوطنية والإسلامية الأخرى لصالح هذه الثنائية الغريبة.

وجدير بالذكر في هذا السياق أن عملية الأسلوة التي مرت بها القضية الفلسطينية على يد الجناح اليميني المهيمن والمحتكر للقرار الفلسطيني، واللعب بالمكتسبات النضالية الهائلة التي أنجزها وضحى من أجلها الشعب الفلسطيني على مدى عقود من الكفاح، كانت نقطة تحول في مفهوم واعادة تعريف النضال وأهدافه من حيث تصغيره الى مقاومة ضد الاحتلال العسكري المباشر للضفة والقطاع فقط، وتجنب الحديث عن الأشكال الأخرى للاضطهاد الصهيوني، وتم الخلط بين التكتيك والاستراتيجية بطريقة فهلوية صغرت الهم الفلسطيني الى معاناة سكان الضفة الغربية (المتنازع عليها حسب نص اتفاقيات أوسلو..) وقطاع غزة الذين أصبحوا يشكلون الشعب الفلسطيني برمته... ولكن فيروس أوسلو، وكما كل الجراثيم المعدية، استطاع أن يعدى العمل الوطني الفلسطيني بشكل عام، حيث تمت أسلوة"اليسار" من خلال عملية أنجزة قامت بالتعامل مع التراث الثوري الهائل الذي ميز عقود الستينيات والسبعينيات وجزء كبير من الثمانينيات.

 وهكذا أصبح "اليسار" الستاليني أيضا يناضل من أجل اقامة بانتوستان على نمط المعازل العرقية سيئة الصيت في جنوب أفريقيا، مما يتناقض جذريا مع الخلفية الأيديولوجية التي ينطلق منها اليسار..! كما انتقلت العدوى الأوسلوية الى الفصائل الاسلامية الكبرى التي تبنت برامج أكثر "واقعية" تضمن كسب "المجتمع الدولي" الى جانبنا، وقامت بإرسال رسائل "تطمينية" الى الادارة الأمريكية تعبر عن مدى "براغماتيتها" من خلال قبولها بنفس الحل العنصري الذي يتعامل فقط مع ثلث الشعب الفلسطيني، ولكن، وبشكل يتميز عن اليمين العلماني،أي بدون الاعتراف بإسرائيل! وعلى الرغم من شبه الاجماع الفصائلي الرسمي على هكذا حل عنصري، الا أن التناحر الفتحاوي-الحمساوي وصل مرحلة صغرت واستخفت بالمعاناة والنضال الفلسطيني بشكل غير مسبوق، وأصبح منطق (اذا لم تكن معي، فأنت ضدي!) سائدا بشكل أدى الى قمع أمني غير مسبوق على أيدي الأجهزة الأمنية. 

ووصلت الخلافات الى مستوى كافكاوي من حيث تعبيرها عن عقد نفسية خلفها الاحتلال من خلال ترسيخ عقدة الاضطهاد والاسقاط النفسي. وقد لعبت الادارة الأمريكية والأنظمة الرجعية العربية دورا كبيرا في تعزيز هذه الخلافات من خلال رفض قبول نتائج الانتخابات الفلسطينية عام 2006، و دعم تيار أمني حاول الانقلاب على هذه النتائج بأسلوب دموي غير مسبوق. وفي محاولة، بدت جدية للوهلة الأولى، حاول الطرفان زحزحة الأمور، وتمت اللقاءات على المستوى القيادي الأول وسط هالة من الابتسامات والقبلات و الإعلان عن تشكيل ما اتفق على تسميته "حكومة وفاق وطني". وتباشر الجميع خيرا من أن هناك امكانية للتغلب على النمطية الفصائلية التي جعلت التنظيم قبل الوطن! وأُطلقت التصريحات المطمئنة عن المصالحة، وتم تشكيل حكومة تم الادعاء انها من التكنوقراط لاتخاذ خطوات عملية في اتجاه ما أسماه الطرفان "شطري الوطن"، الوطن الذي اختزل ليضم فقط معزلي الضفة و غزة. 

ولكن كان هناك من تساءل بعيدا عن البهرجة الاعلامية الفجة وسياسة وضع الرأس في الرمال: هل فعلا تم تخطي الثنائية البغيضة، وما تحتويه من منطق اقصائي يقوم على أساس التخوين والتكفير ورفض الاخر الوطني..الخ؟ وكان الجواب من قبل الفصائل، المتناحرة منها بالذات، أننا قد وصلنا مرحلة متقدمة جدا ما علينا إلا أن ننتظر! وان الألسنة المشككة عليها أن تخرس..! 

ولكن! فشلت "حكومة الوفاق الوطني" فشلا ذريعاً, و تبنت موقفاً انقسامياً معادياً لقطاع غزة بشكل سافر، و أثبتت عدم قدرتها على إدارة ملفات تقنية بحت بسبب موقفها المنحاز لحركة فتح, و عدم تمكينها من إدارة بعض الملفات في قطاع غزة بسبب سيطرة حركة حماس على الحكم. وفي ذات الوقت استمرت الاعتقالات السياسية، مع نفي دائم من قبل الطرفين، واستمر التنسيق الأمني وتم منع الاحتفال بانطلاقة فتح في غزة لأسباب "أمنية" و تشديد القبضة الأمنية في القطاع. وانطلقت التصريحات النارية من كلا الطرفين! وهنا يتساءل البعض: هل نحن أمام لعبة ندفع ثمنها بالدم والمعاناة؟ هل حقيقةً أن القيادة الفلسطينية تعي أن الغالبية الساحقة من سكان القطاع تعيش على المعونات الدولية؟ أم أن البعض منا قد انتقل اما لإدانة كل سكان القطاع بسبب نتائج الانتخابات (2006) وبالتالي التشفي لما يحصل لهم؟ أم أن البعض الآخر قد انتقل من مرحلة مقاومة الحصار، الى التعايش معه، ثم الاستفادة منه؟! لا شك أنالتطورات الأخيرة تدل على أن ما يحصل هو ليست مصالحة بالمعنى الحقيقي الواضح للكلمة بقدر ما هو ادارة للانقسام والتعايش معه. 

ان عدم قدرة القيادات على فهم الواقع العربي الجديد، والاصرار على تبني سياسة رد الفعل التي أبدعنا فيها بشكل تحسدنا عليه كل حركات التحرر الوطني، وعدم رغبة هذه القيادات بفهم الانجازات المشهود لها التي حققتها حملة عزل اسرائيل من خلال حملة المقاطعة وفرض عقوبات وعدم استثمار (بي دي اس)، وذلك من خلال اما اعتبار هذه الحملة لا ترتقي إلى مستوى الأسلوب النضالي الوحيد الذي تفهمه بعض الفصائل، و الذي قد يكون إقصائيا في بعض الأحيان, أو عدم فهم اليات الحملة كأسلوب مقاومة مدنية نجح بشكل واضح في اسقاط نظام الأبارتهيد الجنوب أفريقي. ومما يثير الاستغراب في هذا السياق تصريحات بعض القيادات البارزة من أنه لا يوجد امكانية لتطبيق المقاومة الشعبية في القطاع حيث انه محرر وبالتالي لا يمكن تسيير المسيرات ضد جيش الاحتلال!! 

وهنا تيرز علامة استفهام كبيرة، مصحوبة بعلامة تعجب، عن الفهم السائد للمقاومة الشعبية وتعريفها وآلياتها النضالية. و من الغريب أيضا، وعلى الرغم من الاجماع الفلسطيني حول أهمية حملة المقاطعة، خلو الخطابات الرسمية الفلسطينية من الدعوة لفرض عقوبات على اسرائيل وعدم الاستثمار فيها. بل على العكس من ذلك، فان التسونامي التطبيعي في مدينة القدس وبعض مدن الضفة، والذي يواجهه نشطاء المقاطعة بنجاح مثير للإعجاب، والراحة التي تشعر بها بعض المنظمات التطبيعية الأمريكية في غزة، و السماح بإدخال مشروب التبوزينا الاسرائيلي ، تثير الكثير من علامات الاستفهام. ان الاستفادة والتعلم من تجارب الشعوب التي ناضلت ضد الاضطهاد ليس عيبا، بل واجبا علينا. فجنوب أفريقيا تعلمت من الجنوب الأمريكي وايرلندا الشمالية والتي بدورها استفادت من النضال الهندي والجزائري..الخ مع الاحتفاظ بالخصوصيات النضالية المحلية. 

ومن المعروف أن أقرب التجارب النضالية شبها بالكفاح الفلسطيني هي تجربة الحركة المناهضة للتفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا وبالذات في مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي حيث تكثف النضال المدني والمقاومة الشعبية المصحوبين بحملة مقاطعة دولية هائلة أدت في المحصلة النهائية، وبعد تراكمات عديدة، للقضاء وبشكل كامل على نظام التفرقة العنصرية. وكان التناقض الرئيس، وبرؤية سياسية واضحة، مع نظام الأبارتهيد على الرغم من محاولات ذلك النظام جعله تناقضا ثنائيا بين حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وحزب الحرية انكاتا! وتعددت اشكال النضال ولكن تم التركيز على ما يصيب النظام العنصري في الصميم حيث أن المرحلة التاريخية في ذلك الوقت تطلبت تعبئة الرأي العام الدولي ودعوة المجتمع مؤسسات المجتمع المدني، التدخل لصالح المضطهَد (بفتح الهاء) ومقاطعة المضطهِد. لم يكن هناك أي تعال نخبوي أو احتكار للأساليب النضالية والنظر للقضية من منظار أيديولوجي ضيق ينفي اية رؤية أخرى.
ان الهم الفلسطيني الآن، وفي هذه اللحظة، لا يمكن أن يقتصر على اما أن تكون فتحاويا أو حمساويا، ولا يجب أن تستخدم الطاقات الشعبية الهائلة في تعزيز هكذا ثنائية.

ان رؤية العالم بمنظور أيديولوجي ضيق واقصائي، أو من خلال أن الطريق الوحيد لحل "الصراع" هو مفاوضات ثم مفاوضات ثم مفاوضات، هي ثنائية نقيضة للديمقراطية التي تسيل لها الدماء في المحيط العربي. ليس من المرفوض مطلقا ان تحدد فلسطينية الفلسطيني من خلال هكذا ثنائية اقصائية. من المؤسف أن كل ما قدمناه فشل في إقناع الفصيلين الكبيرين الارتقاء إلى مستوى التضحيات الكبيرة و اللحظة التاريخية الفارقة في تاريخ القضية الفلسطينية. و بصيص الأمل الوحيد الآن تخلقه المقاطعة مدعومة بحاضنة شعبية لم تتوفر في السابق.
ذهبت حكومة "الوفاق الوطني" و قد يتم تشكيل حكومة "وحدة وطنية" من الفصائل الفلسطينية، و لكن الواقع المرير هو أنه لا توجد سلطة بين نهر الأردن و البحر المتوسط إلا سلطة الاحتلال فقط.