الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

نعمان شحرور .... ذاكرة التاريخ الفلسطيني

نشر بتاريخ: 21/06/2015 ( آخر تحديث: 21/06/2015 الساعة: 11:21 )

الكاتب: سمير الأسعد

يتربع الأستاذ نعمان طاهر شحرور على رأس قائمة الباحثين في جذور القضية الفلسطينية وتاريخها ، ومن الدارسين الأكفاء والذي قضى عمره في تدريس الاجتماعيات وخاصة مادة التاريخ في مدارس محافظة مدينة طولكرم وباحثا عن الحقيقة الأصيلة لنقلها دون زيف ودون تحريف لأجيال لم تعش إلا واقع الاحتلال ولم ترى نور الحرية والاستقلال بعد .

الأستاذ الباحث لم ينفك يوما عن نقل خبراته ومشاهداته وتحليلاته لكل الأجيال التي التقى معها سواء داخل نطاق المدرسة أو خارجها ، ومكتسباته من دراسة وتحليل التاريخ لم يضاهيه فيها احد كونها تخرج من أعماق قلبه العاشق للحرية والمثقل بحمل تبعات سياسات ومناهج التجهيل التي فرضها الواقع الاحتلالي ضد المشروع الثقافي ، متنورا ومندفعا نحو الأفق البعيد آخذا بناصية العلم والتثقيف وإشعال فتيل الإدراك والمعرفة . لم تمنعه سنوات عمره التي وصلت السادسة والسبعين عاما من البذل والعطاء في سبيل قضيته الوطنية واستخدام سلاح الثقافة والتحريض على المقاومة بأنواعها وعلى رأسها المقاومة الفكرية وغرس القيم الثورية في النفوس.

هو إنسان متواضع وخجول جدا ، اهتمامه يتمحور حول كل ما يلامس القضايا الوطنية ، تحبه وتحب أدائه منذ اللحظة الأولى ، تتوالى كلماته وعباراته بشكل متواصل سلس ، تراهن نفسك وتفوز في النهاية انه لديك القدرة والرغبة في الاستماع له لساعات طويلة دون أن تشعر بالملل أو الوقت ، وتطلب الاستزادة واللقاء مرة أخرى إذا انتهى من السرد . تشعرانه يملأ لديك فراغا ويربطك بالماضي كأنك تعيشه وتشارك في أحداثه . ليس لديه تكبر أو خيلاء ، يسمع كثيرا ويتحدث طويلا، تشعر براحة نفسية وصفاء روحي يمليه عليك أسلوبه وبساطته.

رغم إصراره وموهبته ورغم القدرات الفريدة التي يتميز بها ورغم موسوعة علمه التي لا مثيل لها، إلا انه يعاب عليه عدم التأليف حتى هذه اللحظة ، مكتفيا بمطالعاته التي لا تهدأ ومحللا ومستخلصا للعبر وراسما لاستراتيجيات وخطط عمل تثير الحماسة والحمية وتلهب الغيرة وتعيد أمجاد القلوب التي خطت على جدرانها أساطير التطبيع والسلام .

درس الابتدائية في مسقط رأسه قرية "بلعا" التي نشأ في أحضانها وتعلم التحدي ورضع الشموخ والعز بين أشجارها ثم انتقل إلى مدرسة الفاضلية ليستكمل المرحلة الثانوية فيها قبل أن يلتحق بدار المعلمين في العروب حيث تخرج منها وانضم إلى سلك التدريس كمعلم اجتماعيات في كل من مدارس سيلة الظهر وعنبتا ومديرا لمدرسة بلعا الإعدادية . لم يسلم الأستاذ نعمان كغيره من حملة سلاح العلم من بطش الاحتلال فنقلته سلطات الاحتلال نقلا امنيا تعسفيا إلى مدرسة ذنابة لمدة عام ثم انتقل إلى مدرسة الفاضلية وبقي فيها حتى تقاعد عام 1990 .

طوال عمله في سلك التدريس كان الأستاذ نعمان شحرور مثالا للمعلم المحب لعمله ينقل روح التحدي والمقاومة بجد وإخلاص لآلاف المتلقين لعلمه ويحرضهم على التسلح بالعلم والوعي والثقافة مستخلصا العبر من التاريخ القريب الذي انتكبت فيه فلسطين ثم انتكست لتقع في براثن تاريخ احتلالي مزور ، ومجاهدا لإيضاح الحقائق وتثبيت الحق الأصيل للعودة للتاريخ الحقيقي ومقاومة التاريخ التوراتي الذي يوهم العالم بحق من ليس له حق في ارض طاهرة لشعب فقير هادئ الطباع وادع ، طرد منها بظلم وحقد ومكر. لم يتنازل شعب فلسطين أو يبيع أرضه ، هكذا يستخلص الأستاذ مشددا على المؤامرة وقسوة الجهل وسوء الإدارة لقياداته السياسية وامتداد نهج العشائرية والقبلية والتراخي في السكوت كأسباب للهزيمة .

شارك الأستاذ نعمان في عدة مؤسسات في بلده حيث عمل عضوا ثم رئيسا لجمعية بلعا الخيرية ثم أسس وترأس نادي بلعا الرياضي ثم ترأس البلدية ليعمل على شق الطرق وبناء المدارس. وعلى مستوى المحافظة عمل عضوا في مجلس الإسكان الفلسطيني وعضوا في الملتقى المدني وفي لجنة نُصب الشهيد ونائبا لرئيس جمعية المعلمين المتقاعدين . وكل هذه المؤسسات التي قادها جاءت من إيمانه بمبدأ المشاركة والخروج من القوقعة التي تفرضها الظروف على الكثيرين كالتقاعد والمرض من اجل الإسهام في عمليات التوعية والتنشئة القائمة على الفهم والإدراك السليم والابتعاد عن تفاهات الأمور والالتزام والتشبث بالأرض .

مثل هذه الشخصية الفريدة من نوعها هو ما نحتاجه في كل أوقاتنا الصعبة ليكون منارة يهتدي بنورها من أضل طريقه ومرشدا لمن تاه في صحراء حياته المليئة بأشواك الضياع والهجرة ، وملهما جسورا لدفع كوابيس المتشككين بعدالة قضيتهم . لا نرى هذه الشخصية كما يجب أن تكون فقد ألقى عدة محاضرات من خلال التوجيه السياسي ، استضافه تلفزيون الفجر الجديد في برنامج اضاءات منذ عام 2014 بشكل متواصل واستضافته جبهة النضال الشعبي في مقرها وما زالت ، ضمن خططها التطويرية للذات الفلسطينية ولربط الحاضر مع الماضي ولإعلام الجميع بوجود مثل هذه الجوهرة الثمينة ، ورغم كل ذلك لم نرى أي اهتمام على المستوى الرسمي بهذه الشخصية العصامية لوضعها في مكانها الصحيح الذي تستحقه عن جدارة ، فهو مستشار سياسي بامتياز رغم عدم حصوله على الشهادات ذات العلاقة ، وهو لم يألو جهدا في الاستمرار في الدراسة والبحث في تطوير ذاته ونقل كل ما لديه فيما يخدم قضية الشعب الفلسطيني .

هو باحث مستقل لا يحابي أحدا ولا يتخلى عن مبادئه ، له طابعه الخاص وأفكاره الثورية التي لا يحيد عنها أبدا، فهو يشدد على ضرورة عودة اللاجئين والمهجرين إلى ديارهم التي رحّلوا عنها مهما حصل من ظروف ومن تغيير على طبيعة القضية منذ بدء النهج التصالحي مع الاحتلال ، وان حق العودة تكفله كافة الشرائع والقوانين والسنن وهو حق مقدس لا يجوز التخلي عنه أبدا ، ولا بد من النضال من اجله كأساس للحل يبنى عليه بعد ذلك ، وهذا يتحقق بالإصرار والتحدي ، بالوعي والعلم والثقافة . ويشير إلى أن فشل فلسفة المفاوضات في تحقيق الحد الأدنى من حقوق وطموح الشعب الفلسطيني هو عدم الفهم العميق لطبيعة العدو الذي غيّر معالم الأرض والتاريخ عندما غمر طوفان عصابات الهاغاناة وشتيرن الأرض التي كانت تسود فوقها المحبة والود والوئام بين كل ساكنيها ، محذرا السير في نفس النهج القديم الذي أضاع فلسطين ومشددا على اخذ العبر من خلال دراسة التاريخ بعمق وروية .

في الظل يقبع الكثيرون من ذوي القدرات والمواهب ومن قد نستفيد منهم في كثير من القضايا الوطنية يختفون وراء حواجز صنعتها عمليات الفساد والمحسوبيات والإهمال ، فمثل هذه القلعة المنيعة قد لا تأخذ حقها من الاهتمام الرسمي بسبب تواضعها وعدم بحثها عن الشهرة والمناصب ، وعدم نفاقها لذوي المراكز ، بل تفرض نفسها بقوة الحجة والثقافة . فكل التقدير والاحترام والاهتمام بهذا الأستاذ الباحث المتمرس ذو الروح المتجددة والمتأججة بالنشاط والحركة الدائمة ، وذو الطاقات التي يجب أن تستغل بشكل دائم للإفادة والتسلح بقوة لإعادة التاريخ إلى مجراه وإحقاق الحق وتصحيح الخطأ التاريخي الذي وقع على الشعب الفلسطيني .