الإثنين: 07/10/2024 بتوقيت القدس الشريف

ابو السعدي في القاعة ...ما هذا؟

نشر بتاريخ: 25/06/2015 ( آخر تحديث: 25/06/2015 الساعة: 11:42 )

الكاتب: عيسى قراقع

يحضر الجميع ويجلسون في القاعة، يتغلب المنظمون على مشاكل المقاعد الاولى، وتزدحم القاعة بسبب اهمية هذا المؤتمر الذي يناقش الوضع الفلسطيني في ظل اطول احتلال في التاريخ المعاصر، والقضايا المطروحة ذات طابع استراتيجي، والتوقعات ان يخرج المؤتمرون عن قرارات مصيرية.

لم يبق احد من ذوي الاختصاص ومواقع المسؤولية السياسية الا وقد وصل القاعة، في ايديهم ملفات واوراق واحصائيات وافلام توثيقية ، جاءوا من كافة الجهات المحلية والاقليمية والدولية، إضافة الى فتح باب القاعة للجمهور والمهتمين من الفقراء والعمال والفلاحين والطلبة والنساء واهالي الاسرى والشهداء والمعاقين والجرحى وغيرهم من فئات الشعب الفلسطيني.

ابو السعدي العجوز الثمانيني قد حضر، جلس على مقعد في آخر القاعة، ثيابه رثة، يعرج قليلا، يرتجف، يرتعش جسمه خاصة رأسه ويديه، وهو معروف بعدم تفويت اي مناسبة الا ويشارك فيها، مظاهرات اعتصامات، اعراس، جنازات، برغم مرضه وكبر سنه وحالته الصحية الصعبة وعدم قدرته على النطق بشكل سيلم وواضح.

ابو السعدي يراقب اعمال المؤتمر المكتظ والساخن، حيث بدأ المتحدثون بصوت جهوري غاضب وحاد، تتردد اصواتهم مع صدى جدران القاعة المغلقة، بعضهم يلوح بيديه خلال كلمته، وآخرون يضربون بقبضات اياديهم على الطاولة، وبعضهم يتحرك يمينا وشمالا وهو يشير الى شاشة العرض من خلفه لإثبات صحة ما يقول.

القاعة تعرق، والحيطان ترتج، عندما بدأ احدهم يشرح عن الاستيطان والمستوطنات المنتشرة والمتمددة في كافة جهات الارض الفلسطينية، معتبرا ان عمليات سطو ممنهجة تجري بحق الارض الفلسطينية، وان عدد المستوطنين قد زاد عن نصف مليون مستوطن، وأن عام 2014 كان عام الاستيطان والتوسع وتهويد القدس بامتياز.

وقال المتحدث ان امريكا شكلت غطاءا لاسرائيل من خلال قرارات الفيتو في مجلس الامن، وان رؤية حل الدولتين قد جرفت الى المجهول، امام استمرار هذا الاحتلال الذي حطم اليقين السياسي، وحوله الى خرسانة مسلحة، ومدن محصنة تنتشر في كل مكان.

ابو السعدي من آخر القاعة يكسر الصمت:ما هذا ؟

وبدات الحلوق تجف، عندما بدأ متحدث آخر يشرح عن سرقة مياه فلسطين على يد حكومة الاحتلال، وانعكاس ذلك على التنمية الاجتماعية والاقتصادية، لا حمامات سباحة، لا آبار ، الزهور تجف، والمزروعات في المناطق الريفية تموت،واوضح المتخصص في شؤون المياه عن سياسة التمييز والسرقة في المياه، حيث يزيد استهلاك الفرد من المستوطنين يوميا بنحو 20 ضعفا عن استهلاك الفلسطيني، وان اسرائيل تستولي على 80% من المياه الفلسطينية.

المتحدث يصاب بالعطش، ويتناول قنينة مياه للشرب ، فيقاطعه ابو السعدي من بعيد ما هذا؟

وكشفت شاشة العرض التي اشرف عليها ذلك الخبير في شؤون الجدار، عن حية رقطاء تتلوى من مكان لمكان في الاراضي الفلسطينية، انه جدار الفصل العنصري، الذي حول التجمعات الفلسطينية الى معازل وكانتونات، ونهب الالاف من الدونمات والمزروعات الفلسطينية.

يقول المتخصص: ان الجدار يلتف في الضفة ليضم 74 مستوطنة، ويعزل 97 قرية وتجمعات سكانية، وان هناك 73 بوابة عسكرية ، وأن على الفلسطينيين ان يسيروا مع خط الجدار في طرق التفافية عديدة، وقد اختتم محاضرته صارخا الجدار نهبنا واذلنا وعزلنا عن الهواء والسماء، اين السماء؟

رد عليه ابو السعدي: ما هذا؟

المتحدث السياسي اوضح في فلسفته المتشابكة عن الفرق بين الاحتلال البشع والاحتلال الجميل، والفرق بين الدولة ذات الحدود المؤقتة والدولة كاملة السيادة، والفرق بين مرحلة التحرر الوطني ومرحلة التحرر الاجتماعي، وبدأ يؤشر بابهامه على المسافة التي خطاها الشعب الفلسطيني منذ ان شطب اسمه في النكبة، حتى صار له اسما في الامم المتحدة، قائلا: كان هناك فدائيا على جبل، صارهنا وزيرا في مكتب.

ابو السعدي: ما هذا؟
القاعة مضغوطة ، العيون تبحلق في سيل المعلومات ، اجساد مجروحة تجلس هنا بلا قرار،الجميع يشعر انه مقيد بالسلاسل، خاصة عندما بدأ المتحدث عن الاسرى بشرح اوضاع المعتقلين وحجم الاعتقالات الواسع، وما يعانيه الاطفال والنساء والمرضى والقدامى من تعذيب وإذلال وحرمان وإجراءات قمعية.

وكاد يبكي ويقول ان الاسير خضر عدنان اصبحت حياته مهددة بالموت بسبب اضرابه عن الطعام ضد اعتقاله الاداري، وان العالم لم يفعل شيئا لوضع حدّ لمأساة المعتقلين، وقال انه بدا يتقيأ الدماء، مقيدا على سرير المشفى، معزولا عن الناس والنصوص والتدخلات الدولية، ومن الصعب ان يكون الموت في فراغ يشبه القبر المفتوح.

وعندما تحدث عن الاسير المشلول منصور موقدة،جسد مدمر، تتدلى منه الاسلاك واكياس البراز، بطنه مكور، عموده الفقري ممزق، ينام في تابوته القادم، احلامه سوداء، بكى امام الميكرفون وذرفت دموعه ولم يستطع اكمال محاضرته.

ابو السعدي: ما هذا ؟

اصبح الجو عاطفيا في القاعة، وشعر الجميع بالاختناق، اخرجوا مناديلهم ليمسحوا العرق المتصبب منهم، لا احد يبتسم في القاعة، لا احد يتنفس كأنهم في سجن المسكوبية، كلمات فيها رعب وهاجس من القلق، تذكروا اولادهم، وتمنوا لو ينته المؤتمر ليتفقدوا عائلاتهم ويستنشقوا الهواء.

المسؤول في الحركة العالمية للدفاع عن الاطفال عرض فلما عن اعتداء الكلاب البوليسية على الطفل حمزة ابو هاشم في بيت امر، ورأى الجميع كيف نهشته وعضته الكلاب، دماء تسيل، صراخ وبكاء طفل بريء، الليل مليء بالعواء الاحتلالي، لا اسعاف ولا مغيث، صمت هناك، وصمت في القاعة.

ابو السعدي: ما هذا؟

ذلك المحامي سرد تجربته في محاكم الاحتلال، موضحا ان 850 شكوى ضد التعذيب قد اغلقتها المحكمة العليا الاسرائيلة، وانه يوجد قضاء عسكري لا قضاء انساني، قانون حربي لا قانون دولي، قضاء عنصري لا قضاء ديمقراطي، داعيا الى مقاطعة القضاء الاسرائيلي، ووقف سوق الاستنزاف امام محاكم الاحتلال واعلان العصيان.

ابو السعدي : ما هذا ؟

المتحدث باسم القانون الدولي صرح اننا سنلاحقهم في المحكمة الجنائية الدولية، لقد ارتكبت اسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية ، يجب ان يتوقف هذا الاحتلال فهو الى زوال، وان مصير هذه الدولة العنصرية سيكون في قفص الاتهام، واخرج ملفا ضخما وثقت فيه جرائم اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني قائلا: استعدوا، معركتنا القانونية بدات، الضحايا سينتصرون على الجلادين والمستوطنين، نحن نواجه دولة فاشية وعسكرتارية تعشق الحرب وتغتال السلام الانساني.

صرخ ابو السعدي: ما هذا؟
واستمع المؤتمرون الى الوضع الداخلي، كانوا متضايقين وهم يتحدثون عن ازدياد نسبة العمال الذين يسقطون عن السقالات خلال العمل، وعن ازدياد نسبة الاخطاء الطبية في المستشفيات، وعن غلاء الاسعار، وعن ازدياد ظاهرة قتل النساء، وازدياد نسبة الفقر والبطالة، والجميع حمّل الاحتلال المسؤولية، مطالبين بقوانين للحماية الاجتماعية.

اختتم المؤتمر اعماله بتوصيات عديدة وهامة، وتداخلت المواضيع واكتظت وطفحت، واختلطت كما يختلط الناس امام حاجز قلنديا ،وعندما هم الجميع بالخروج وجدوا ان باب القاعة مغلق باحكام، فأخذوا يدقون على الباب، يدقون ويدقون، وابو السعدي لازال جالسا يسأل: ما هذا، ما هذا؟؟؟؟