الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

"رمضان" على خارطة مُفزِعة

نشر بتاريخ: 28/06/2015 ( آخر تحديث: 28/06/2015 الساعة: 18:47 )

الكاتب: المتوكل طه


ما للمرارة والحامض الكاوي والرمل الناشف في حلوقنا؟ رغم شهقة التلقّي لشهر رمضان الكريم ؟ كأننا ننتظر تلك الطمأنينة والسكينة من خير الشهور ، عسى أن تبتلّ لهاتُنا بشَهْد الذّكْر ، والصبرِ على ما يمور من خراب ودم وتشريد وفرقة واقتتال وفتن وضلالات وكوارث ومفاسد وجنون ، على امتداد خارطتنا الكبيرة ، التي يومض كلُّ شيء فيها سريعاً نحو هاوية مرعبة !
وها إنّي أتحسّس دبقَ الشريان المفتوح ، مجّاناً ، على الأصابع المضطربة، والسخونةُ تهمُّ بالتلاشي ، والظمأُ عتيق .
ولا رعد فوق الخبب، يترنّح بجذعه ، ليُنادي الفارس وراء دغل البلح ، لأنه الغزال يتحسّس الموقدة المندلعة بشعاب الضوء ، وخياله الجامح يجتاح صدره بالنار ، ولا يرى زوابع الهلع التي تشلع المكانَ من مكانه !
أيّ موجة حارقة تلك المنداحة على سُكّرنا الأسود المرّ ؟ وعمّتنا النخلة تكدّ جدائلها اليابسة ، ليسقط عن ألواحها الحبّ المترمّد المذرور، إثر الحريق المدوّي الذي أخذ أعذاقها للعدم ؟
وما للطير ببراءة الغموض، يلفّه الخوف ، في غربة مجهولة ، وشجرهُ يسيل على الحواف كهرماناً من النسغ المشعوط ؟
ليس للبلّور المجعّد في هذا المدّ البعيد من صوت آخر ، سوى ما تدفعه الأعماق إلى البيوت المُرهقة المهدّمة العطشى ، وللشبكة المقطّعة التي تنوء بمخلوقات الليل المتغضّنة .
أيها المتفّرد ، المُعاكس للمشهد المتشقّق ، العميق الواسع الشهيّ المخيف ! ستفقد ملوحتك الثقيلة إنْ وصلت الدماء إلى صفحتك ، وصار لها لون غروب دميم ، وسنكون أمام شواطئك المهجورة نبكي ، فلا صدى ، سوى ما يتهيّأ للمدّ من شراع يتهاوى في القيعان !
***
وألفّ حولي ، فلا أجد في الوجه المتناسخ سوى سحنة مركّبة من ضدّين ، ولا اتساق في الملامح إلاّ ما يتماهى من قُبْح وشناعة ، مبطّنة بفولاذ معقّد ، وصلت غرابته اللسان والألوان والخطوات .
أيها الغُراب الذي فقد مشيته الراسخة على ترابه الأصل ! حان هامش الرماد الجشع ، الذي تحرسه شهوات النقيض ، وأحالته إلى مذابح لكل خلايا الحياة ، ليعيدك إلى ناووس العجز ، واللهاث وراء الصغائر ، وأسئلة الذات المبهمة .
ويا ليتني ذالك الفارس الذي أنصف الخيول ، وشرب من أعرافها عسل الكرامة والعدل . لكنني الموزّع في الملايين التائهة ، المفرومة باستراتيجيات البرامج ، ورغبات الكارتيلّات ، وأطماع المؤسسات الغريبة ، واستحقاقات تثبيت النير على الأكتاف، بعد أن صار المواطن المُسَرْنَم بلا رأس، أو يقع تحت اشتراطات الإقليم المبهظة ، التي تنازع الطفل دفتره ، والرضيع حليبه ، والمرأة شالها المسروق.
وما فتئت داحس تدقّ حافرها الشيطاني ، على عتبات القرى والحواضر، وتجنّح بزعيقها المصنوع الشائخ الكريه ، وقد تداخلت رماحنا المستوردة في نحورنا ، وسال دم الرُضّع على أقدام الطريق الموحل .
إن الحالة أكثر عمقاً وتعقيداً مما كنا نظنّ ! وإنّ الدائرة المُطبقة أكثر شراسة مما نعتقد ! وإنّ الأيدي التي تعيد تركيبنا مُرابية إلى حدّ الحريق والإلغاء .
فلا يغترّ راءٍ بأيّ معلّقة مهما سطعت وأشرقت ، ولا يردّد فمٌ أيَّ نشيد ، قبل أن يسبر غور المؤلّف والملحّن والبادئ بالغناء . إن هذا لا يعني تبريراً للمذابح ! فلا مرافعة تجيز كل هذا السفْح والسفْك والمجازر ، التي تترى كلّ رمشة عين ، أو وجيبٍ أثقله النجيع .
وإن المتسيّد ، الغارب أو المشطوب ، ليس ابن إله مصفّى ، بل لعنة مكثفة ، أو أخطبوط مجنون ، أخرج الجغرافيا وما فيها وراء الزمان والمكان ، وترك الناس على حبل المشنقة يتلمّظون بالنزيف ، على جوعٍ وجهل ومذلّة ومرض وانكسار . وهو ذريعة الخراب لأنه الحاكم بأمر أسياده ، وهو الذي دعاهم الى وليمة المقدّرات ، وكانت أمُّه الذبيحةَ الطازجة .
ولا خلاصة نهائية ، نعصرها في فنجان ، لنبلغ الحقيقة أو الحكمة ، بقدر ما نقصد ضرورة التمعّن الهادئ الحصيف ، في المعروض من الحقوق والأعراض والأوردة المفتوحة ، أو في الرصاص الساديّ الغليظ ، الذي يفتت الشظايا المتبقية تحت أقدام المحتفل الآفل ، وكان يتهدّل على القطع المجزّأة ، مثل سالومي الراقصة حول رأس النبي المقطوع .
***
وبالفعل ، عندما يعود المحارب من المعركة ، يذهب لمقاتلة نفسه ، لأن " الأعداء" كانوا يشغلونه عن غيره الجوّاني والخارجي ، لكن الغرابة في أن المحاربين الأشقاء يتنازعون الغنائم قبل عدّها أو حتى امتلاكها تماماً ، ما يعني أن الأذْرع البعيدة هي التي تهندس الحرب ، أو تؤسس لرؤية مُريبة ، أو أننا لم نخرج بعدُ من مرحلة تعريف الذات ، أو تحديد الهدف ، أو أننا مهزومون لم نبلغ أهدافنا ، أو نقاتل لأننا نبحث عن الخلاص الشخصي .
ولا طهارة في كل ذلك ، غير ما تسكبه الأمّ من دمعٍ بريء على ولديْها وهما يتجالدان على طراوة الجثث المتراكمة ، في ادّعائهما للوصول إلى أفعى العرْش المجرمة .
وأعودُ من فجيعة الخلْق ، إلى حسرةٍ ، في كل ما تقع عليه بصيرتي ، فأحتشد بأوار، لا أجد متنفّساً له سوى الكلام ، الذي ينقذنا من كآبة المشاهد ، التي تسعى لاستعادة أناقتها ، رغم التلوّث ، الذي يحطّ أقدامه على ما تبقّى من زينة فطرية تغري الفَرس بالصهيل ، وإنْ كان وحشيّاً أو مجروحاً ، مثل جرح الكرز ، في ظهيرة الحقول المنسيّة .
وأعود فلا أجد سوى أن أصرخ في وجه هذه المذبحة الهائلة ، مستعيناً بقوة الحياة ، والحضارة التي شوّهوها ، والإيمان الحاسم بأن هذا المخاض الدامي العنيف ، سيتجلى ولادةً لعيد أكبر من عيد الفطر الحزين ، والذي نرجو أن يكون أكثر قبولاً للبهجة.. الضائعة.