نشر بتاريخ: 02/07/2015 ( آخر تحديث: 02/07/2015 الساعة: 14:20 )
الكاتب: هبة الوعري
ترقرقت الدموع في عيناي ثم انسابت دمعة على وجنتي بعد أن طال اعتقالها, وتلتها أخرى، حاولت أن أتدارك نفسي وأداري مشاعري بعض الشيء كوني في مكان عملي ولكن قساوة مقطع الفيديو الذي شاهدته على جهاز اللاب توب جعل كل محاولاتي في إخفاء دموعي وكفكفتها بمنديلي تبوء بالفشل، ثم انهارت دموعي في بحر آلامي غير مكترثة بمن حولي فقد أوجعني ذلك المقطع كحد السيف وأدمى عيناي وأبكى قلبي معاً، ثم صفنت برهة من الوقت وإذ بزميلتي تقول لي بعد أن أصابتها الدهشة عندما رأتني (ماذا بك)!..
حكاية مخيم اليرموك أشبه بحكايات ألف ليلةٍ وليلة، آهات وأوجاع متلاطمة وغصّات لا تنتهي، فلم تخلو نشرة إخبارية على شاشات التلفزة أو على مواقع الانترنت من أخبار مخيم اليرموك وحصاره الأسوأ في التاريخ، فقد آلَم قلوبنا جميعاً بمشاهد أطفاله ونسائه وشيوخه وهم يموتون قصفاً وقنصاً وحصاراً وجوعاً، فمشاهد الدمار الهائل الذي حل به وإبادة حارات بأكملها وتغيير معالم الحياة فيه وهجرة ساكنيه والجوع الذي فتك بحياة الأطفال والمسنين جُلها عوامل جعلتنا نَصف مخيم اليرموك (بعاصمة الشتات الفلسطيني) وذلك بلجوء أهله مرتين قديماً وحديثاً، كما أن الفلسطينيين مثل إخوانهم السوريين تجرعوا مرارة القصف والتشريد والموت.
في ذلك الصباح البارد وكما اعتدت يومياً مطالعة آخر الأخبار والمستجدات على الساحة الفلسطينية خاصة والعربية والدولية عامة وأملاً في أن أجد خبراً مفرحاً أستبشر به طيلة يومي خاصة في خضم تسارع الأخبار المحلية والعربية المقلقة ولعلي أسترق خبراً جيداً أحتفظ بعنوانه لنفسي، فتحت جهاز اللاب توب الخاص بالعمل وباشرت بتصفح بعض المواقع الإخبارية وبدأت بتحريك عجلة الفأرة من أعلى إلى أسفل كما تصفحت حسابي الخاص على صفحة موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) حينها وقعت عيناي على مقطع فيديو لم يكن له عنوان سوى صورة علم سوريا على واجهته وكوني أتابع دوماً أخبار الثورة السورية بشغف فتحته بترقب كي أشاهد ماذا يحمل في طياته و (.......) أذكر حينها احتبست أنفاسي لقسوته وصدمت بما شاهدته، ولا شعورياً أعدت مشاهدته مرة أخرى حتى نهايته، فالفيديو لأم تندفع بشدة على سريرٍ داخل مشفى مُلقى عليه جثة ابنتها وهي تصرخ من أعماق قلبها وغارقة في آهاتها ودموعها، حضنت فلذة كبدها وقبلتها وضمتها على صدرها بقوة وطبطبت عليها؛ ورددت بعض الكلمات (مالك يا امي كلك غبرة مالك ردي عليا ردي) فقد بكى قلب الأم قبل عيناها واختنقت الأحزان في صدرها عندما لم تجبها طفلتها وصرخت بعدها صرخة تدمي لها القلوب، لكنها لم تستسلم فقد حادثت نفسها مرة أخرى (قومي يا امي قومي جبتلك عروسة حلوة)...
ربما لم تعي الأم حينها ومع صدمة الموقف أن طفلتها أصبحت جسد بها روح، وأن روحها الطاهرة قد انتقلت إلى بارئها.
حيث أن فجعة الأم على ابنتها جعلت الطبيب يقول لها بصوت مرتفع (ادعيلها بالرحمة يا حاجة ادعيلها بالرحمة) محاولاً إبعادها بصعوبة عن السرير الذي ترقد عليه طفلتها الشهيدة.
فقد قضت هذه الطفلة جراء قصف للبراميل المتفجرة استهدف منزلهم بمخيم اليرموك حيث تم انتشال جثتها المغبرة من تحت الأنقاض من قبل طواقم الدفاع المدني بالمخيم، بينما نجا إخوتها الصغار الذين كانوا يلهون خارج المنزل كما نجت أمها التي كانت تسعى لجلب قوت يومٍ تعود به لأطفالها.
نحن كفلسطينيين نتأثر أكثر من أي شعب دولة أخرى بما يحدث في سوريا كون أننا نعيش نفس المعاناة والألم وذقنا ويلات الحروب التي أحدثت بدواخلنا جراح عميقة من الصعب نسيانها، وتجرعنا مرارة القصف والدمار والتشرد وأريقت دماء كثيرة على أرضنا الطاهرة كما لازلنا تحت حصار خانق خاصة في قطاع غزة الحبيب، لذلك نشعر بما يؤلم شعب سوريا ونتعاطف معهم، وأحياناً تعجز ألسنتنا عن التعبير كما وتتعثر أقلامنا عن الكتابة ولكننا نحاول دوماً أن نفرغ ما بداخلنا من آلام تعتصر قلوبنا علنا نستطيع أن نوصل معاناة المكلومين ولو بشيء قليل؛ وهنا أذكر مقالي الذي كتبته عن سوريا أيضاً قبل عام والذي حمل عنوان (عذراً سوريا العرب خارج التغطية!) حيث وصفت فيه العرب (صم بكم عمي) عن ما يحدث من مجازر ترتكب في سوريا التي لازالت تئن وتصرخ ولا من مجيب فقد ماتت الضمائر العربية منذ زمن ولا نعول عليهم.
فمع دخول الثورة السورية عامها الخامس على التوالي ومع استمرار حصار مخيم اليرموك قرابة السنتين لازالت الآلام باقية والمعاناة تتفاقم من حصار وتجويع، فقد أُغرق شعب سوريا بجراح عميقة حيث قهرتهم الحرب وأثقلهم الفقر المدقع، وهدمت بيوت الكثيرين كما مسحت معالم حارتٍ عن بكرة أبيها، وأبيدت أسر بأكملها، فمخيم اليرموك أصبح بين مطرقة قصف النظام السوري وسندان حصار وسيطرة ما يعرف ب (تنظيم الدولة الإسلامية) حيث وصل عدد اللاجئين الفلسطينيين المحاصرين فيه (15) ألف لاجئ محاصر.
أتساءل دوما إلى أي حد أثرت في البعض مشاهد الأطفال وهم يربطون بطونهم بحبال لتخفيف آلم الجوع؟ أو حتى سكان مخيم اليرموك وهم يقتاتون أوراق الشجر والحشائش والقمامة والقطط النافقة حتى يسدوا ثغرة من جوعهم من شدة الحصار الخانق، وهل لنا أن نتخيل كيف أصبحت أجساد الأطفال هياكل عظمية بعدما نهش الجوع أجسادهم الصغيرة التي أصيبت بالجفاف والهزلان؛ كم هي صور قاسية ومؤسفة حقاً.... أليس حري ببعض الدول العربية التي تقيم الولائم والعزائم وتمد الموائد أن تتحرك وتقدم دعمها لهؤلاء الأطفال بعد أن بدأت حياتهم تتلاشى منها أدنى مقومات الحياة.
في نهاية مقالي أقول: من يُدمل جراح مخيم اليرموك الباسل، ومن يداوي آلام الملايين من أبناء شعب سوريا العظيم، ومتى ستتأجج مشاعر العرب تجاه آهات وأنين الأمهات، ومتى ستتحرك النخوة العربية لإغاثتهم؟ أسئلة من الصعب أن نلقى إجابة عليها ولكن ستبقى أقلامنا نبراساً تخرج الصورة الحقيقة للألم والمعاناة وسيبقى صوتنا يصدح عالياً لعل النداء يخترق الآذان الصماء، ولنوحد جميعاً الدعاء: اللهم يا غياث المستغيثين أغث أهلنا في مخيم اليرموك وكن معهم وأعنهم وهون عليهم، اللهم احمي أهل سوريا وأطفالها ونسائها وشيوخها وفرج همهم يا قوي يا جبار.
آمين يا الله إنك مجيب الدعاء