نشر بتاريخ: 02/07/2015 ( آخر تحديث: 02/07/2015 الساعة: 14:16 )
الكاتب: سمر الدريملي
"اشتريت لك يمّا الكعك من مخبز المصرارة, وأقراص الكِشِك من باب العمود،بسّ؛ ما لحّقِت أشتري من عمي "أبو الياس"إمشبّك، كان كلّه مخلِّص، وبعدها ضلّيت طالعة على مطعم "العجوز والبحر" بيافا أنا وصديقتي النابلسية.. اتغدينا هناك.. وستّي زعلت منّي عشان ما اتغديت عندها كبّة وورق عنب بمطبخها اليافاوي.. هي بتسلّم عليكي، وبعتت لِك ضُمّة هالنعنع، إلحقي حُطّيها بميّه، طول الطريق لغزة؛ وأنا رافعاها برّه الكيس عشان ما تذبل".
مشهدٌ تمثيليٌّ قامت به شقيقتي التوأم أمامنا؛ بينما كنّا نجلس في مطبخنا وسط مدينة غزة"لتلقيط" أوراق الملوخية؛ في محاولةٍ لاستضحاكنا؛ بعد أن بدأنا الحديث عن لوعة الفراق عن بعض أفراد عائلتنا وأحبائنا في الضفة الغربية وفي دول الشتات؛حيث علت علامات البؤس والشجن على وجوهنا؛ خاصةً؛ وجه أمي اللاجئة من يافا..
مشهدٌ يحلم به كلُّ فلسطينيّ؛ بحيث يستطيع أن يجوب خارطة فلسطين-طولاً وعرضاً- بحريةِ وانعتاقِ تامّين من كلّ القيودالبشرية والحواجز الجغرافية... لا أن تبقى الخارطة مجرد قلادةٍ على صدورنا نفتخر بها كوسام شرفٍ أبدي.
مدن وقرى فلسطين التاريخية تُكمّلُ بعضُها بعضاً غذائياً ومحاصيلياً وطبيعياً وصناعياً ومزاجياً وآدمياً.. في الصيف كانت تتغنّى موائد السهرات في غزة بموز وبلح أريحا والأغوار، بينما تعُجُّ بيوت أهل الضفة الحبيبة بشقحات بطيخ جنين.. صابونة الشكعة التي تُسكبُ في نابلس كانت تذوب هنا في رؤوس أطفال غزة أكثر من ذوبانها في نابلس.. وبينما تتلاشى حبّات التوت الأرضي من بيت لاهيا في أفواه أهلنا في طولكرم وقلقيلية؛ كانت قطوف عنب الخليل تداعب شفاه أهل غزة.. وبينما تتلاقف الأيادي في رام الله حمضيات غزة ويافا بانتعاش وابتهاج؛ تجيدُ مرمرية الضفة تحسين مزاج حلقات السَمَر الليلية في شتاء غزة.
وما إن يحين موسم قطف حبّات اللؤلؤ الأخضر عن أشجار الزيتون في فلسطين؛ حتى تبدأ رفح الجنوب بتصدير ونشر زهور القرنفل داخل فلسطين وخارجها..
وبينما تلمع أحذية "الخليل" التي ينتعلها شبابنا في غزة وتبرُقُ أصدافُ وتُحفُ"بيت لحم" في بيوت غزة العتيقة يتراص فخار مدينة خانيونس وبسطها -المغزولة يدوياً بأبهى الألوان- في مشربيات وقيساريات مدينة نابلس العريقة.
بصراحةً؛ لا يمكنني أن أنسى أول مرةٍ تمكّنت فيها من الحصول على "تصريح"للعبور من غزة إلى الضفة الغربية، حيث أنني لازلت أحتفظ بهذه القصاصة الورقية التي كتبت بالكامل باللغة العبرية، إلا جملةً واحدةًكُتبت باللغة العربية وهي: "يُسمحُ له بالتنقل والمبيت في إسرائيل ما عدا إيلات".
أذكر يومها أنني خرجت في الساعة السابعة صباحاً من بيتي في غزة، وبعد مراحل التفتيش والتنقيب -في العظم واللحم والعصب وخلايا الجسم- في الطرف الآخر من حاجز بيت حانون "إيريز" (والذي يسيطر عليه جيش الاحتلال الإسرائيلي)وصلت إلى الضفة الحبيبة، فلم أخلع حذائي يومها إلا الساعة الثانية من بعد منتصف الليل؛ حيث شعرت بأنني يجب أن أستثمر الـ(48) ساعة –مدة التصريح- في استكشافأوسع مساحةٍ ممكنةٍ من فلسطين التي أراها لأول مرةٍ في حياتي!!
أذكر أنني في إحدى المرات (وخلال زيارتي لمدينة الناصرة الرصينة) حارت عيناي إلى أين تتجهان أو إلى أين تُحدّقان وتجيلان البصر ..كلّ ما فيها يزفُّ خبر "البشارة".. عتق الجدران.. لون التراب والحصى.. حتى انحناءات أقواس الأزقّة، والنور الساطع خلسةً من بعض الفتحات والشبابيك الضيّقة.. حتى وجوه الناس هناك وطريقة إشراقهم وغروبهم مع كلّ يومٍ جديد..!
ولعلّ أكثر ما شدّني وأسال دمعي؛منظر شابٍ-في العشرينات من عمره- وجدته يمشي أمامي، كان يشبه تماماً من الخلف أخي الشهيد "محمد".. طريقة لباسه.. مشيته المتراخية.. قَصَّة شعره (على الصفر).. تفصيلة جمجمته.. حتى أنني كدت أن أناديه؛ لألحق به ليستدير؛ فأرى وجهه..!
نحن حتى على صعيد الخِلقةِ والوجوهِ والملامح والفروقات الشخصية وتفاصيل الجسم والجمجمة ونبرات الصوت واللكنات.. تجد وكأنّ ثمّة تشابه بل وتجانسٍ وتآلفٍ بين كلّ الفلسطينيين.. فالهوية الجامعة لنا جميعاً واحدةٌ ضاربةٌ في جذور الأرض منذ آلاف السنين؛ إلا أنّ حالة الاستكمال والاستتمام للهوية الفلسطينية الواحدة لازالت ومنذ 67 عاماً تتعرض للانتقاص والتشتيت والتفريق والتصغير بشتى الوسائل والطرق؛ وعلى رأسها الاحتلال الإسرائيلي وجداره العنصريّ وحواجزه العسكرية ونقاط التفتيش المقيتة.
دعوني هنا أتحدث قليلاً عن حاجز بيت حانون "إيريز" حيث تابعتُ مؤخراً قصص العديدين من أهلنا في غزة الذين ذاقوا الأمرّيْن للحصول على تصريحٍ لاجتياز هذا الحاجز؛ وصولاً للضفة القريبة الحبيبة؛ لكن دون جدوى.
مئات الطلبات تُقدّمُ شهرياً عبر وزارة الشؤون المدنيةوجهاتٍ أخرى؛ ولا يُقبلُ منها إلا الزهيد الطفيف!! وفي المقابل؛ يموت المئات من الفلسطينيين أيضاً دون أن تشذى صدورهم بنفحاتٍ من عبق المسجد الأقصى ولو لمرةٍ واحدة.. ودون أن يلتقوا بذويهم وأحبائهم في الرئة الثانية من الوطن.. يعيشون ويموتون وينجبون وينتحبون ألم الفراق والتمزيق والغربة داخل الوطن الواحد!! في حين أن الحواجز والمعابر وسبل تمزيق الهوية نجدها في صمودٍ وازديادٍ وتضاعفٍ بل وفي تكاثر!!
ولعلني -وكما الكثيرين- قد راق لي العديد من الحملات والمبادرات التي قامت بها عددٌ من المؤسسات والتجمّعات الشبابية مؤخراً،ومنها "متحركين من أجل فلسطين"،"أنا فلسطيني من غزة من حقي الصلاة في القدس"؛ إلى جانب حملة "بدنا نشوف الضفة.. بدنا نشوف غزة" علّ مثل هذه المبادرات تُحرك ركود هذا الملف الشائك؛حيث تُعتبرُ بمثابة لوبيٍّ ضاغطٍ على سلطات الاحتلال، وعلى ذوي الاختصاص والمسئولية في "السلطة الوطنية الفلسطينية"أيضاً؛ لذا؛ أرى أن من الضرورة بمكان استمرار وتطوير أدواتٍ مثل تلك المبادرات؛ بحيث نتأرجح بسكينةٍ ودعةٍ ذهاباً وإياباً بين شطري الوطن؛ لا أن نُسلق ونُكوى بالحديد والنار مائة مرة كي نحصل على تصريحٍ يمكننا من بلع جرعة دواءٍ مريرةٍ ممزوجةٍ بقهر الذل والظلم في مستشفى داخل "إسرائيل".