الإثنين: 23/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

وحدة التنوع

نشر بتاريخ: 13/07/2015 ( آخر تحديث: 13/07/2015 الساعة: 10:36 )

الكاتب: عثمان أبو غربية

تتركز التداعيات السلبية التي تتطور في هذه المرحلة ليس بما يقتصر على أماني الوحدة العربية، ولكنها تنال بشكل خطير من الوحدة القطرية التي هي أصلاً نتاج تقسيم استعماري رسمته خارطة النفط وتحالفات ما بعد الحرب العالمية الأولى. والاقتسام الذي تمثل في اتفاقية سايكس بيكو بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي في ذلك الحين.

لقد أثبتت الأحداث أن هناك هشاشة كبيرة في الوحدة القطرية مصدرها سلوك الانظمة والحكام، وليس سلوك التنوع في داخل القطر الواحد، لأن التنوعات كانت جاهزة للإبقاء على الإطار الوحدوي القطري وحتى القومي العربي، وكانت أقصى ما تريد هو الحفاظ على الحقوق والثقافة واللغة الخاصة والتمتع بالمواطنة المتساوية، وربما درجة من درجات الحكم الإداري الذاتي.
يبدو أن جزءً من الأغلبيات أو الأقليات أحياناً، لم يفهم أو يستوعب معادلة وحدة التنوع وخاصة الطبقات الحاكمة أو الطامحة في السلطة.
دلت الممارسة أن طريق وحدة التنوع القطري أو القومي العربي أو لدى الدول الأخرى سواء الأكثر تقدماً أو الأكثر تخلفاً كل حسب معطياته الإيجابية أو السلبية تسلك أحد شكلين:

الأول: هو الطريق القسري، وهو طريق الديكتاتورية والقمع وحظر الثقافة الخاصة وعدم احترامها وعدم المساواة الفعلية سواء في المواطنة أو الحقوق وإحتكار السلطة والمقدرات من قبل أحد الأطياف، والتفتيت الديموغرافي ونقل السكان وغيرها.
هذا الطريق هو أقصر طريق للإنقسام في أية لحظة تلوح، سواء عندما تضعف في البلاد السلطة المركزية أو ترتخي القبضة الحديدية أو تظهر أطراف يمكن الاعتماد عليها.
من الطبيعي أن البلاد قد تمر في مفاصل تحتاج إلى قبضة السلطة المركزية وخاصةً في مواجهة تحديات خارجية أو مخاطر وجودية، ولكن هذه القبضة لا يمكن أن تنجح بدون التماسك الداخلي الذي يتمكن من عزل النزعات الانفصالية وأطرافها، ويمكن من مواجهة التحدي الخارجي والحفاظ على وحدة الوطن وقواه ومقدراته.
في كل الظروف هذه مفاصل استثنائية أكثر احتياجاً للتماسك الداخلي الذي يتمكن من عزل النزعات الانفصالية وأطرافها، ويمكن من مواجهة التحدي الخارجي والحفاظ على وحدة الوطن وقواه ومقدراته.
في كل الظروف هذه مفاصل استثنائية أكثر احتياجاً للتماسك الداخلي الكافي والواسع والذي يقوم على أسس غير قسرية.

الثاني: هو طريق الوحدة الإرادية للتنوع، وهو ما استلزم ويستلزم المساواة في المواطنة وعدم التمييز في الحقوق والواجبات فعلياً، وعدم استفراد الأغلبية أو أقلية ما بالحكم ومواقع الدولة والجيش وأجهزة السلطة والشرطة وحتى التمييز في الخدمات الاجتماعية كالتعليم أو الصحة أو غيرها تحت عنوان وآخر.
لا يجوز أن تحتكر الأغلبية امتيازات المواطنة والحكم والأخطر من ذلك هو أن يتم قهر الأغلبية باحتكار الأقليات لها.
كذلك تستلزم الوحدة الإرادية احترام الخصوصيات دينية أم طائفية أم قومية. والإقرار بالخصائص الثقافية والتراثية والمعتقدات واللغة الخاصة إلى جانب اللغة الرسمية أو لغة الأغلبية.

إن العدالة الاجتماعية وتوفير الكرامة والمساواة في الحقوق والواجبات وتوفير الخدمات والتنمية المتكافئة هي أساس تماسك وحدة التنوع، وبدون ذلك لا يتحقق التماسك اللازم لا للوحدة القطرية أو للوحدة الأكبر في ظل عالم لا تعيش فيه إلا المتحدات الأكبر.
يعاني الوطن العربي من نتائج إنعدام إعطاء هذا الأمر حقه سواء في الأقطار التي تفجرت فيها المشكلة، أو حتى الأقطار التي ما زالت المشكلة فيها كامنة والتي عليها أن تنتبه لهشاشة التماسك الظاهري، لأن ذلك سينتهي بالانفجار الحتمي في أية لحظة ضعف ذاتية أو أمام أية عاصفة دولية، وخاصة عواصف الاستعمار والسيطرة والهيمنة.

لا بد من المساواة في المواطنة وحقوقها: المساواة في التعليم والوظائف العليا والمشاركة في أجهزة وأطر السيادة وتوزيع الثروة حتى في النطاق الجهوي.
من الواضح أن الطريق الأول أخذ نصيبه ومصيره المعتم حتى الآن في الكثير من الأقطار العربية.
ليس خافياً ما يجري في العراق من تكريس للتقسيم وخلق كيانات يمكن أن يشكل بعضها دول الأمر الواقع على طريق التحول إلى الدولة المستقلة.
وليس خافياً ما حدث في السودان، ولكن الأنكى والأشد بلوى هو ما يجري في سوريا وظلاله في لبنان، وفي اليمن، وما يلوح في مواقع أخرى.
لا شك أن نزعات الهيمنة الخارجية الاستعمارية ونزعات الهيمنة الاقليمية تلعب دوراً في استثمار هشاشة التماسك وثغرات سلوك الأنظمة.
ولا شك كذلك أنه في خضم معركة المصير الوطني لا يمكن أن يكون المعيار إلا بين الخندق الذي من شأنه الحفاظ على وحدة الوطن وقوة الجيش وعدم تدمير مقومات وإمكانيات الدولة. وبين الخندق الآخر الذي من شأنه أن يصب في الاتجاه المعاكس.
هذه لحظة تتطلب الرهان على الخندق الأول بغض النظر عن رموزه أو سلوكهم وبغض النظر عن الجراح، وذلك على أساس الاصلاح واستدراك الأخطاء، ربما في اللحظات الأخيرة قبل فوات الأوان.

وعلى الأطراف التي دُفعت بطريقة أو بأخرى أن تكون في الخندق السلبي، ان تراجع مواقفها كذلك وأن تنضوي في إطار شبكة أمان وطنية تمنع التقسيم والتدمير لأن الوطن وطن للجميع. خاصة وأن قوى الأطماع الاقليمية والاستعمارية تستعمل العناصر الدخيلة لإطالة الفتن وتعميقها، وإطالة عملية التدمير الذاتي وتركيزها لكي تؤدي النتائج التقسيمية والتدميرية والتأثيرات الديموغرافية السلبية.
لا يستطيع الوطن العربي أن يستغني عن أي من مكوناته، والعالم الخارجي يحاول أن يكون جاذباً لأجزاء من هذه المكونات كالمسيحيين على سبيل المثال. وهو أمر بالغ الخطورة لأن هجرة مسيحيي الشرق أبناء هذه البلاد هو سيف ضد الأمة العربية بحدية،وكذلك ضد تاريخها وثقافتها وحضارتها وتراثها ومكونها الوطني والقومي.
المسيحيون شركاء في كل أنواع الكفاح القومي بل وفي نهوض روح القومية العربية، وفي الدفاع عن الوطن وهم جزء عضوي لا يمكن للجسد القومي أن يقبل ضموره أو بتره.

هناك خط توازن خاص بالوطن العربي لتحقيق التماسك والوحدة وابقائهما في إطار المساواة وعدم التمييز، وهو القدرة على ضبط الخط الدقيق بين عاملين أساسيين للوحدة هما العروبة والإسلام. حيث يمكن أن يبرز لون العروبة في المواقع ذات الخصوصية التي تتطلب ذلك، وأن يكون ذلك العنوان والبروز على أسس من المساواة والعدالة ووحدة الجسد، وأن تتوفر فرص للتنوع ليجد مكانه في إطار الوحدة.
تفجرت مشاكل كبيرة وخطيرة نراها بأم العين أمامنا، وتحتاج إلى علاج يعتمد أولاً على ردم الهوة، والاتفاق على وحدة الوطن والتوقف عن تدميره وتدمير الذات، وعزل العناصر الدخيلة المستخدمة على المستوى الفردي والجماعي من كل الأطراف على أساس إعادة الحسابات، ووضع خارطة طريق تصل إلى التغيير والإصلاح الأعمق والأشمل في البلاد.

ما زالت المشاكل غير متفجرة في مواقع أخرى، ولكنها تنام على جمر هادئ، ولا بد من استدراك الأمور قبل وقوع الحدث عن طريق تعزيز وحدة التنوع، والمساواة في الحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية والمشاركة وتكافؤ الفرص وتوفير الكرامة وعدم التمييز.
من الواجب أن تعي كل الأطراف المعنية خارطة الطريق الخاصة بظروفها لتحقيق الهدف ووحدة التنوع.
إن التمييز السكاني وبين الفئات السكانية هو نار كامنة مدمرة تنفجر إذا وهنت السلطة المركزية أو في حال توفر أية قوة خارجية يستعان بها، ويصل الأمر في ذلك حتى عمى الألوان.
إن أكبر ضمانة لوحدة الوطن وحمايته من الانقسامات الأهلية ومن فرص توفر الثغرات، وحتى لحماية النظام والكيان هو التماسك الوطني والتماسك بين السلطة وعموم الشعب.