الكاتب: فكري جودة
ضجّت وسائل الإعلام العالمية صباح اليوم 14/7/2015 بنبأ رئيس واحد وهو توقيع اتفاق الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودول 5 1 (بريطانيا والصين وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة، والمانيا) على اتفاق ينهي أزمة الملف النووي الإيراني الذي خيمت آثارها بقسوة على الاقتصاد الإيراني الضخم خلال السنوات العشر الأخيرة ، ومنذ تطبيق إجراءات الحصار المصرفي والنفطي الصارم الذي طبق منذ العام 2011.
ولتفهم الآثار الكارثية لهذا الحصار على الاقتصاد الإيراني نذكر أن الحصار المصرفي قد عزل إيران عن شبكة التحويلات المصرفية الدولية SWIFT)) ، مما عنى تعطيل عمليات الاستيراد والتصدير وتوقف جل العمليات التجارية الإيرانية المعتمدة على عمليات التحويل المصرفية. كما أن أن حظر تصدير النفط ومشتقاته أدي لحرمان الاقتصاد الإيراني من المصدر الرئيس للعملات الأجنبية في البلاد وبالأخص الدولار الأمريكي. وقد انعكس ذلك مباشرة في شكل دورات تضخمية أدت لانخفاض قيمة العملة المحلية (التومان) بمقدار الثلثين خلال عامين من الأزمة، ودخلت البلاد في حالة من الركود الاقتصادي حين لم تتجاوز نسب النمو الاقتصادي السنوي 2% أو 3%. وزاد الطين بلّة انسحاب كبريات الشركات العالمية المستثمرة في السوق الإيراني، حيث انسحبت شركتا بيجو وسيتروين من سوق تصنيع السيارات الإيراني، وكذلك جمدت شركات مثل شل و بريتيش بتروليوم اتفاقات التنقيب والبحث عن النفط.
ولم يفلح المسعى الإيراني في القفز على هذه العقوبات من خلال مجموعة من الاتفاقات الثنائية مع روسيا والهند والباكستان في تعويض الاقتصاد الإيراني عن الخسائر المذكورة سابقا إلا بشكل جزئي، وكان واضحا من خلال السياسات المنفذة على الأرض من قبل السلطات الإيرانية أن العوائد المالية المتحققة من هذه الاتفاقات الثنائية لم توجه لمصلحة دعم المواطن الإيراني العادي، وإنما وجهت لصالح الاستثمارات الحكومية الاستراتيجية في قطاعيّ الطاقة والتسلّح ، ودعم نفوذ الدولة الفارسية في إقليمها المحيط (العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين). وذلك اعتمادا على تقديرات استراتيجية بإمكانية تحمل الآثار الاجتماعية الداخلية للأزمة الاقتصادية على المديين القصير والمتوسط، مقابل ثقة صانع القرار بإمكانية التوصل لاتفاق نووي مع الدول الست الكبرى يحفظ لإيران مكتسباتها النووية ويمكنها من استدراك الخسائر الناجمة عن الحصار لاحقا.... وهذا ما تم اليوم.
ما الذي يحمله المستقبل ؟
توقيع اتفاق اليوم يعني ضمنيا رفع الحظر – تدريجيا – عن أرصدة الجمهورية الإسلامية المكدسة في المصارف العالمية منذ العام 1979 (عام انطلاق الثورة الإيرانية) والتي قدرت حينها ب12 مليار دولار، نمت لتصل قيمتها حسب أكثر التقديرات تفاؤلا لتصبح 180 مليار دولار، هذا إلى جانب انفتاح السوق الإيراني على الاستثمارات الخارجية والتي بدأت تتقاطر فعلا على إيران بمجرد ظهور بوادر لاتفاق وشيك مع الدول الست الكبرى. وهذا يعني أننا سنشاهد سوق عكاظ فارسيّ النكهة في الأيام والشهور القادمة، فالشركات العالمية التي تعمل في غرب الكرة الأرضية وشرق آسيا وروسيا تعمل حاليا في بيئات تعاني الركود الاقتصادي، وإيران تحتاج لاستثمارات هيكلية عملاقة في قطاعات الطاقة والبنى التحتية والتكنولوجيا تقدر ب 100 مليار دولار في حدها الأدنى خلال السنتين القادمتين، وذلك لتحقيق الأهداف التنموية اللازمة لإلحاق الدولة الفارسية بعجلة الاقتصاد العالمي وتحقيق معدلات نمو اقتصادي مريحة تعوّض المواطن الإيراني عمّا عاناه في سنين الحصار العجاف.
ومن الواضح أن إيران في سبيل تحقيق ذلك الهدف لا تستطيع الاعتماد على قدراتها الذاتية، بل تحتاج للاستثمارات الخارجية المتحفزة للدخول إلى السوق الإيراني. كما أنه من الواضح أن السلطات الإيرانية في حاجة لتطبيق حزمة من الإصلاحات القانونية والضريبية والإدارية التي تضمن الشفافية والتوافق مع القوانين الدولية والقضاء على الفساد الإداري الحكومي الذي استشرى تحت ضغط الأزمة الاقتصادية.
هل هناك متضررّون من الاتفاق الإيراني؟
بالتأكيد نعم، فعلى المستوى الاقتصادي نحن أمام بيئة جديدة جاذبة للاستثمارات الدولية في المنطقة تتميز بضخامة السوق وثبات المؤشرات الاقتصادية وسيطرة السلطة الحاكمة على مفاصل الدولة بشكل محكم. وهذا بالتأكيد يسحب البساط من تحت دول المنطقة الساعية لجذب الاستثمارات الأجنبية مثل مصر والعراق وباكستان وحتى الجارة الكبرى تركيا.
أما على المستوى الاستراتيجي والسياسي، فلا شك أن إيران التي استثمرت قواها الناعمة دون هوادة في المنطقة العربية خلال السنوات الماضية سوف تستخدم صحوتها الاقتصادية القادمة في مزيد من السعي للتمدد والسيطرة عبر وسائلها التقليدية (الطائفية) وعبر وسائل أخرى قد تكون أكثر خشونة على الأرض.
وهذا ما يفسر إعلان المملكة العربية السعودية لانزعاجها من توقيع أي اتفاق مع إيران لا يأخذ مصالح باقي دول المنطقة في الحسبان، وكذلك الصراخ والعويل الذي صدر ويصدر عن الكيان الصهيوني واصفا الاتفاق بأنه كارثة عالمية سوف تجر الويلات علي دول العالم (المتحضر). والغريب هنا التناقض العجيب الذي شاهدناه في الموقف الأمريكي، حيث أن أمريكا رسميا قد وافقت على الاتفاق وباركته باعتبارها إحدى الدول الست المفاوضة لإيران، إلاّ أننا سمعنا تصريحات الشجب والاستنكار للاتفاق على لسان مختلف المسؤولين الأمريكيين من المعارضة في الكونغرس وحتى الرئيس الأمريكي نفسه. والتي قد تفسّر على أنها تصريحات مواساة للصديقة المدللة إسرائيل ولحلفاء أمريكا العرب، أو أنها محاولة لإيجاد مخرج مستقبليّ للتنصل من هذا الاتفاق.
في كل الأحوال يمكننا القول أن شيئا ما قد تغير في هذا العالم بمجرد توقيع اتفاق إيران النووي، ويبقى أن نشاهد التغيرات التي ستنتج عن هذا الاتفاق اقتصاديا وسياسيا على الأرض في قادم الأيام.