الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
ارتباك الحاكم ومهادنته للامر الواقع مفهوم ، ويمكن تبرير أمره بضغط العمل وتشبثه بالحكم ، أو عدم الثقة بالنفس أو مسايرة العوام ، أو نقص الخبرة ومحاولة شراء وهم الهدوء بأي ثمن . اما ارتباك المثقف فلا يمكن تبريره ، لان دوره الوظيفي ان يفسر ارتباك الحاكم دون أن يقع فيه .
وما نشهده مؤخرا هو ارتباك للمثقف العربي ، وكلما قرات الصحف العربية صباحا صرت الاحظ ان نفس الكتاب الذين كانوا يدعون ويروّجون لفكرة سابقة او زعيم بائد ، صاروا هم أنفسهم يكتبون ويروّجون لفكرة مغايرة تماما ولزعيم جديد ومختلف ، فهناك ارتباك وخوف عند المثقف العربي كفرد أ والمثقف كمؤسسة ( منظمة حقوق انسان – جامعة – كاتب – مسؤول اعلام – مدير تلفزيون ورئيس البلدية ) . ومهادنة الواقع المتردي تقع مؤخرا بقصد " التعايش " . ذلك لانني وجدت انتشار فيروس المهادنة في البلاد العربية اعلى بكثير مما هو عليه في الاراضي الفلسطينية .
هناك فرق بين الثورة وبين الاصلاح ، فحركة الثورة تهدف الى طرح البديل التقدمي وترسيخ الجديد على أنقاض الماضي الفاشل ( اذا كان الحاضر جيدا وأراد احد او جهة ما النكوص بالواقع الى الوراء فلا تسمى ثورة بل تسمى ثورة مضادة ) . اما الاصلاح فيهدف الى الابقاء على الواقع القائم مع قليل من ادوات التجميل لاقناع الجمهور بقبوله .
وللاسف فان ما نشهده مؤخرا ، لا هو ثورة ولا هو اصلاح ، وانما مهادنة للطغيان وترديد ببغائي للشعارات الجوفاء باعتبارها مسلمات تحت مسمّى مصلحة الوطن ومصلحة الحزب ومصلحة الامة والمشروع القومي أو المشروع الاسلامي ، وصرنا بين الالحاد العدمي من جهة و التخلف والظلامية من جهة اخرى ، ويقود المرحلة الان مجموعة من المهرجين والبلهاء والافّاقين والفهلويين والمنبوذين وتجار المخدرات وتجار الترامادول ، والاغرب انتشار ظاهرة دخول مجموعة من نوافل العالم السفلي والذين صاروا يدّعون فجأة انهم تابوا الى الله واصبحوا دعاة ورجال دين ويسعون كل يوم لاثارة مشاكل اجتماعية والدعوة لاستخدام العنف ويحرّضون ضد الاديان الاخرى والجماعات الاخرى بحجة انهم – خلال شهور فقط – اصبحوا الاكثر حرصا على الدين والاسلام . والاخطر من جميع هؤلاء من اندسوا الى عالم الفكر والشعر والمسرح وهم لا يملكون فكرا ولا معرفة ولا تجربة ولا منهاج العلمي .
أكبر خطأ أن يهادن المواطن المسؤول ، وان يهادن المسؤول المدير ، وان يهادن المدير الشيخ ، وان يهادن الشيخ الجماعة ، وان يهادن امام المسجد الاذاعة ، والاوقاف تهادن الفيس بوك ، والفيس بوك يهادن تويتر ، والجميع يهادن التلفزيون .
المثقف الفلسطيني – مثله العربي – سيفقد هيبته اذا يهادن في قضايا مصيرية بحجة ان الامر في اطار الليبرالية والتماشي مع الواقع ، في حين يزداد تطرف الراديكاليين أكثر وأكثر ويأخذون أكبر من حجمهم بكثير لانهم لا يهادنون ويرفضون الديموقراطية كمبدأ ، والراديكاليون في كل التنظيمات اخذوا اكبر من حجمهم لان المجتمع افسح لهم طواعية ولم يواجههم ولو بكلمة ، والدول صارت تهادن بعضها بعضا ، والجميع يهادن الدول الغنية حتى لو فسقت ، والمخابرات الصغيرة تهادن المخابرات الكبيرة ، والصحف تهادن الجمهور ، والجمهور يهادن شركة الاتصالات ، والسلفيون يهادنون داعش ، وداعش تهادن شركات النفط الكبرى ، وشركات النفط تهادن شركات السلاح .
المهادنة لا تصنع تاريخا ولا وطنا ، ، وعلى المثقف ان يعرف ان تمسكه بالقانون المدني لا يخجله ، وان مجاراة التخلّف والتعصب والتطرف لا تصنع مجتمعا ، بل تسرّع في ردة الفعل المضادة .
من يحب فلسطين ، عليه ان يحب المواطن الفلسطيني . فما قيمة ان تهتف الدول باسم فلسطين وتسجن الفلسطينيين وتهينهم في المطارات وعلى كل الحدود .
ومن يحب وطنه وشعبه ، عليه ان يكف عن المهادنة والنفاق والتملق ومجاراة التخلف . وطالما ان جميع التنظيمات " تدّعي " انها تريد تطبيق القانون فليكن القانون هو الحكم بيننا . ولن يدمرنا ويعيدنا الف سنة للوراء سوى المهادنة والسكوت امام بعض الجماعات وبعض الرموز ( لغاية الان لا أعرف كيف صاروا هم أنفسهم رموزا لكل الانظمة ولكل الثورات ) .
أي مسؤول او جنرال او شيخ او رجل اعمال أو مثقف يأتي ويشرح لك ان ما يطلبه منك يجب ان تنفذه لمصلحة الدين والوطن . قل له : نحن في مجتمع ديموقراطي مبني على القانون وحرية الاختيار وليس في زريبة بمزرعة ابوك . وانت لك الحق في الاختيار والانضواء الحر وان تنتخب من تريد وتلبس ما يليق بك وتفكر كيفما تريد ، ونختم بعبارة الخليفة عمر بن الخطاب : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا ؟