نشر بتاريخ: 06/08/2015 ( آخر تحديث: 06/08/2015 الساعة: 11:21 )
الكاتب: سري سمور
لاحظت في السنوات الأخيرة ضجة وجدلا يحمل السخرية والانتقاص يقوم عليه بعض أبناء جلدتنا، فكرته العامة النفور من وصف أصحاب الإنجازات العلمية بالكفار، وهم الذين اخترعوا الكمبيوتر والإنترنت والهواتف الذكية والتيار الكهربائي، وهم الذين أنتجوا اللقاحات والأدوية التي تقينا أو تعالجنا من الأمراض الخطرة القاتلة، وهم الذين ابتكروا وسائل النقل التي جعلت قارات العالم الست أشبه بقرية صغيرة حيث ينتقل الإنسان باستخدام الطائرة في يوم واحد مسافة ما كان له أن يقطعها إلا في شهر وبشق الأنفس، وهم الذين تنعم بلادهم بالنظام والأمن والرفاهية مما يدفع كثيرا من (المؤمنين) للهجرة بطرق شرعية أو غير شرعية لبلاد هؤلاء(الكفرة)، وبالتالي نحن نعيش-حسب وجهة نظر هؤلاء- في تناقض مع ذاتنا، وعلينا التوقف عن وصف عقيدة أهل العلوم والتقدم بما تستحق من وصف، نظرا لأننا نستخدم مخترعاتهم ولا نستطيع العيش بدونها، وتعتبر بلادهم مثلا أعلى لمن شاء العيش برفاهية وأمن واستقرار، وهي أمور تفتقدها معظم بلادنا.
وقد انضم لهذه الجوقة –مع الأسف-مؤخرا بعض المحسوبين على التيار الإسلامي، والذين أسهبوا في إجراء مقارنة مبتورة بين حالة التخلف عندنا وحالة الرقي عند الآخرين، وأنه يجب أن (نتواضع) أمام هذه الحالة وأن ننحني لهم شكرا وعرفان، بل ذهب بعض المندفعين بعيدا حينما قالوا أننا أهل الكفر وهم أهل الإيمان!
فوجدت لزاما عليّ أن أتناول الأمر بنوع من الشمولية لتفنيد هذا الفكر الأشبه بفايروس، وأرى أنه فكر أخطر علينا مما نحن فيه من دمار وفوضى وتخلف، وذلك عبر الإضاءات التالية:-
أولا: التقدم في مجالات الحياة المادية إذا لم يقترن بعقيدة سليمة، وإيمان صحيح يكون حجة على أصحابه، وفي القرآن الكريم أمثلة على ذلك منها قوم نبي الله هود-عليه السلام- وهم عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وخاطبهم نبيهم محذرا (أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين، وجنات وعيون،إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم/الشعراء 128-135) فهؤلاء قوم كان لديهم تقدم علمي ما تزال آثاره ظاهرة في منطقة الأحقاف بين عُمان وحضرموت؛ تقدم في مجال البناء والعمران، وقوة عسكرية باطشة، وغنى ورفاهية، فهل أغنى ذلك كله عنهم من الله شيئا؟وهل كان تقدمهم المادي الكبير سببا للنجاة من عذاب الله الذي جاءهم على شكل ريح صرصر عاتية استمرت سبع ليال وثمانية أيام حسوما؟ وهل نعتبرهم قدوة ومثالا حسنا؟كلا بالطبع، والقرآن الكريم ساق لنا خبر هؤلاء لنتعظ ونعظ غيرنا، فالمعيار ليس البناء الفخم والغنى والتقدم العلمي والقوة العسكرية، بل الإيمان والتقوى.
ثانيا: التقدم والإنجاز العلمي الذي يفيد الإنسان حينما يقترن مع الإيمان فهو أمر ممدوح في القرآن الكريم؛ فنبي الله داود-عليه السلام- كان عابدا تقيا كثير التسبيح، يصوم يوما ويفطر يوما، وفي ذات الوقت اخترع دروعا ذات حلقات والتي قللت عدد ضحايا الحروب(وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون/الأنبياء 80) أي أن هذا الاختراع المهم يستوجب الشكر لله، وليس الطغيان والتكبر والغطرسة، وهو ما نراه فيمن يتحدثون عن المخترعات والإنجازات العلمية كمبرر للغرور والتكبر، ونبذ الذات، والسخرية من الإيمان، ومثل داود كان سليمان-عليه السلام- الذي بلغ من الملك ما بلغ، ومن الإتقان العمراني ما جعل ملكة سبأ تحسب أن الصرح لجة من الماء فتكشف عن ساقيها...فالإنتاج العلمي والجمال والإتقان في البنيان والعمران أمر مدحه وأشاد به الإسلام إذا كان مقترنا بالإيمان والتقوى والصلاح والتواضع لله، والعكس صحيح.
ثالثا: حض الإسلام على العلم واستكشاف أسرار الكون ولم يحرّم على الإنسان الإبداع واختراع ما يجلب له ما يسهل حياته على الأرض، والحالة التي يعيشها المسلمون من حيث التأخر والتخلف مردها إلى عوامل عدة، منها أنهم لم يفهموا دينهم كما يجب، بحيث يتعلمون ويخترعون ولا يعيشوا عالة و كلاّ على غيرهم.
رابعا: الاستفادة من علوم ومعارف غير المسلمين أمر لا ينتقص من قيمة المسلم، وفي ذات الوقت لا يستوجب مدح عقائد من يجيد هذه العلوم؛ ولنا في رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم- أسوة حسنة في هذا، حيث أن الحارث بن كلدة طبيب العرب المشهور بحذاقته في زمانه، لم يكن مسلما حينما طلب أن يعالج سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه- من مرض أصابه، فهل نمدح عقيدة الحارث الطبيب، وننتقص من سعد الصحابي الجليل لأنه تداوى عند الأول بأمر النبي؟كما أن عرب الحجاز لم يكونوا في حروبهم يستخدمون الدبابة، وهي آلة حربية مصنوعة من الخشب ومغلفة بالجلد يختبئ المقاتل فيها فيكون محميا من الضربات والسهام وغيرها؛ ولعل اسم الدبابة في عصرنا مأخوذ من فكرتها، وأرسل سيدنا رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم- اثنين من صحابته هما عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة-رضي الله عنهما- إلى جرش ليتعلما صناعتها، فالتعلم والاستفادة لا بأس بهما، ولكن للأسف بقي المسلمون في هذا العصر مستهلكين أكثر منهم منتجين لمخترعات غيرهم، ومع ذلك لا يجوز التشكيك بعقيدة المسلم لأنه لم يخترع ما اخترعه غيره ويستخدمه ويبتاعه.
خامسا: إن الاختراعات والإنجازات العلمية والعلاجات الطبية أمور تراكمية في حياة الإنسان على الأرض كان لكل حضارة إسهاماتها فيها قبل الإسلام وبعده، ولم يبخل العرب والمسلمون على الإنسانية بما ينفعها عندما كانوا رواد الحضارة وقد سبقهم غيرهم وجاء بعدهم من أبدع وابتكر واخترع، ولست من محبي كثرة التغني بالأمجاد ولكن العالم كله يشهد للعرب وقد صنّف غربيون كتبا ودراسات ضخمة تشيد بحضارة العرب في المشرق العربي كبغداد أو في المغرب والأندلس، ولكن في القرون الأخيرة دب الكسل والتخلف في صفوف المسلمين فتخلفوا عن ركب الإنجازات العلمية وهذا وإن كان أمرا يستحق النقد الشديد، واللوم والعتب، ولكنه لا يعني أن الآخرين من غير المسلمين على صواب في معتقداتهم، وأنه يتوجب علينا اتباعهم شبرا بشبر وذراعا بذراع!
سادسا: تخلف المسلمين والعرب لا يعود فقط لعوامل ذاتية بل بسبب الغزو والاستعمار الغربي وإصرار الغرب بقوة السلاح على إبقائهم في دائرة المستهلكين لا المنتجين، والحرص على دعم الاستبداد في بلدانهم وتقسيمها المرة بعد الأخرى، وإقامة إسرائيل ومدها بكل وسائل القوة والمال والتقدم العلمي والتقني في قلب العالم العربي والإسلامي، وما جاء به وجود إسرائيل من مشكلات وأزمات متوالية متراكمة ساهمت بلا شك في زيادة الفقر والتخلف في مجتمعاتهم.
سابعا: المخترعون وأصحاب الإنجازات العلمية هم أشخاص ومؤسسات في دول غالبا تكن لنا العداء الصريح أو المبطن، فهل مطلوب منا بسبب علومهم واختراعاتهم وأدويتهم أن نقابلهم بالترحاب؟إن المسلمين غير مؤاخذين وفق عقيدتهم وبنص قرآني صريح بإحسان التعامل مع كل من لم يعاديهم من أصحاب العقائد الأخرى، حتى لو لم يكن مخترعا ولا طبيبا حاذقا(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين/الممتحنة 8) أما من قاتلنا وأخرجنا من ديارنا ويمكر مكر السوء ليخرب ديارنا فحاله مختلف، ولو كان صاحب إنجازات علمية.
ثامنا: محاولة رسم صورة وردية انطلاقا من نظرة أحادية خطأ؛ صحيح أن لدى الغرب نظام جيد لتداول السلطة، ونظام محاسبة وشفافية للحكومات، ونظام يضمن توفير الغذاء والدواء والتعليم للجميع، وهناك تكافؤ فرص يغبطون عليه، ولكن في المقابل عقيدتهم سواء اللادينية التي يفاخر بعضهم بها، مثل أوروبا التي رفضت مجرد الإشارة إلى الجذور المسيحية في دستورها، أو الديانات التي ينتسبون إليها، وهذا أمر عقدي لا مجال للمجاملة والمحاباة فيه، ناهيك عن المنظومة القيمية والأخلاقية التي وصل بها الأمر إلى تشريع زواج الشواذ بنصوص قانونية، وكون أكثر من 50% من المواليد في أوروبا نتاج علاقة خارج العلاقة الزوجية؛ وللأسف بعض من أبناء جلدتنا يدافع ويقلل من خطورة وبشاعة هذه الأمور بالقول بأنهم وإن كانوا يشرعون الشذوذ ويبيحون العلاقات المحرمة، ولكنهم يتسمون بالصدق والنظام الدقيق وتنعدم الفوضى في شوارعهم ومؤسساتهم ويحاسبون الفاسد ولو كان على سدة الحكم، ويزيدون بأن منا من يرتكب المحرمات في الإسلام وإن كان لا يظهر هذا علنا، صحيح من حيث الوصف ولكن خطأ من حيث الاستنتاج، فمن انتكست فطرته لا يصلح أن نتخذه أنموذجا وقدوة ومثلا أعلى؛ ووفق هذا المعيار فإن مشركي قريش كانوا ينصرون المظلوم ويكرمون الضيف ولا يغدرون حتى بعدوهم وعندهم نخوة وشجاعة، فهل كانوا على خير حال؟!
تاسعا: يجب ألا ننسى أن العلم والمخترعات في ظل الهيمنة الرأسمالية قائمة على قيمة الأرباح والمكاسب أكثر منها على خدمة الإنسانية ، بل إن كثيرا من المخترعات استخدمت بداية من المؤسسات العسكرية والأمنية قبل أن تنتقل إلى الجامعات والمؤسسات التعليمية وعامة الناس، مثل شبكة الإنترنت التي كانت خاصة بوزارة الدفاع الأمريكية(البنتاغون) وليس مسموحا في ظل النظام الرأسمالي الممسك بتلابيب العلوم والاقتصاد اختراع شيء يؤثر على أرباح ومكتسبات الشركات العملاقة، فمثلا هل اختراع سيارة تسير بسرعة معقولة بالطاقة الشمسية سيلقى تسويقا تجاريا؟هذا يعني أن مصانع السيارات التي تعمل بالوقود وتجني أرباحا بمئات مليارات الدولارات ستخسر، وينطبق الأمر على إنتاج اللقاحات والعقاقير، فكل شيء مضبوط بآلة الرأسمالية ذات الأنياب الجشعة، وليس بالحرص على الإنسان وسعادته مثلما يخيل لبعض منا!
الحديث ربما يحتاج إلى توسع أكثر، ولكن أكتفي بهذه الإضاءات والملاحظات، وبالتأكيد لا أقصد بها مدح حالتنا المزرية، ولكن لنتذكر أن حالتنا تسبب الغرب في كثير منها، فهو الذي يقيم جمعيات للرفق بالحيوان، لم يتورع عن قتل الإنسان في بلادنا ولو كان طفلا أو شيخا، سواء بطريقة مباشرة أو عبر تأسيس إسرائيل وتزويدها بالقنابل والطائرات والبنادق، وهو الراعي والحارس والداعم لمنظومة الاستبداد والفساد في بلاد العرب والمسلمين...والأهم أن عقيدتنا ليست محل نقاش ومقارنة لنستبدلها بمخترع علمي ندفع ثمنه من عرقنا وقوتنا ودمنا وثرواتنا المنهوبة، ومحاولات بعض الكتبة والمنظرين، والذين انساق وراءهم بعض العامة في هذا الاتجاه خطيئة وخطأ، وفكر يجب التصدي له وتبيان خطره على المدى القريب والبعيد.