الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

شطرا الوطن: وجهة نظر نقدية

نشر بتاريخ: 09/08/2015 ( آخر تحديث: 09/08/2015 الساعة: 09:21 )

الكاتب: حيدر عيد

مع توقيع اتفاقيات أوسلو المشؤومة وما تبع ذلك من تشكيل ما اصطلح على تسميته بالسلطة الوطنية الفلسطينية, و محاولة إعادة صياغة الوعي الوطني الفلسطيني بطريقة تتناقض مع حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية, و بالذات حقه في تقرير المصير كما كفلته الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة المتلاحقة بهذا الخصوص، حصلت بعض الانحيازيات الطبقية شملت تحالفات بين "البرجوازية" غير الأصيلة وطبقة كومبرادورية مُستحدثة. و قد أدى هذا الى إعادة صياغة الثقافة السائدة التي كانت ترتكز على ما يمكن تسميته بالثوابت التي لا تتعارض مع القيم الأساسية لحقوق الانسان و الديمقراطية الحقة. فقد قامت أوسلو بإعادة تعريف الشعب الفلسطيني, بعد أن كانت قرارات المجلس الوطني(1988) قد مهدت لذلك. فأصبح الشعب الفلسطيني هو ذلك الجزء الذي يسكن تحت احتلال اسرائيلي مباشر في بعض المناطق التي قامت اسرائيل باحتلالها عام 1967. و تمت إعادة صياغة الأولويات بحيث لم يعد الجزء الأكبر، أي اللاجئون، يشكل الاهتمام المركزي للنضال الوطني لدرجة أن القيادات الفلسطينية أصبحت تضع قضية العودة على طاولة المساومات من ناحية, والشعارات الخاوية عند اقتراب موعد انتخابات أو زيارة المخيمات المزرية التي أصبحت مكانا دائما للسكن من ناحية أخرى. و اختفى أي تصريح يتعلق بالجزء الثالث, أي أولئك الصامدون في مناطق ال48.

و لكن ذلك التصغير لمكونات الشعب الفلسطيني, مع محاولة إعادة رسم خارطة فلسطين الذهنية, لم تقتصر على الذين وقعوا اتفاقيات أوسلو و روجوا لها على أنها الحل الوحيد الممكن (وكأن الثورات في العالم قامت للتعامل مع الممكن فقط!) أو في أحسن الحالات "خطوة أولى" ..الخ بل أن القوى السياسية التي أبدت معارضة كبيرة للاتفاقيات عند توقيعها و رفضت المشاركة في السلطة الوطنية و المجلس التشريعي بناءً على أنها افراز لتلك الاتفاقيات التي أدت الى اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية باسرائيل، و ما ترتب على ذلك من علاقات غير متكافئة بين مضطهِد عنصري و مضطهَد محتل, و أنها لا تتعامل مع الحد الأدنى للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. و لكن طغيان الثقافة السياسية الأوسلوية السائدة أدى الى نشوء بعض الظواهر الخطيرة التي أثرت بشكل مباشر في صياغة الخطاب الفلسطيني المعارض لها بطريقة أدت في المحصلة النهائية الى تطويعه و احتوائه، مع ترك هامش شكلي للمعارضة و تجميل الصورة.

وأصبح من الواضح الآن, أي بعد 22 عاما من توقيع أوسلو, أن عملية الأنجزة, وهي الوجه الآخر للأسلوة, كانت الأداة التي تم استخدامها لتطويع قوى اليسار الثوري و الاصلاحي لدرجة تخليه عن هويته التي ميزته عبر سنوات النضال و الكفاح ضد الاحتلال و التطهير العرقي و الأبارتهيد و نضاله من أجل العدالة الاجتماعية دون فصل ذلك عن النضال الوطني و الديمقراطي. و كما تم تحييد الاتجاهات الوطنية داخل التيارات التي وقعت اتفاقيات أوسلو التي شاركت في الانتفاضة الأولى, أو تهجينها من خلال عملية تلقين حول حماية "المشروع الوطني" المقتصر على اقامة معزل عرقي (بانوتستان) على غرار المعازل الأفريقية التي سمح نظام الأبارتهيد العنصري في جنوب أفريقيا بإقامتها و أطلق عليها لقب "أوطان مستقلة"، أدت عملية أنجزة اليسار الى شرعنة الاتفاقيات وطنياً و تسويقها من خلال معارضتها! و لم يكن بالامكان تسريع هذه العملية إلا من خلال تحييد القوى الثورية داخل اليسار، المشهور بهيمنة التوجه الستاليني داخله و بالتالي المحافظة على الشعارات الثورية الطنانة بعد تفريغها من مضمونها بالكامل.

و كان التيار الاسلام(و)ي الأبرز قد أبدى أيضاً معارضةً "جدية" للاتفاقيات و عارض المشاركة في السلطة و انتخابات المحلس التشريعي بأي شكل كان لدرجة التخوين و التكفير. إلا أن البراغماتية النفعية، ذات الوجهين من مصلحة تنظيمية طبقية و دوغماتية عدمية، أدت الى تغيير تم الادعاء أنه غير جذري و بالتالي المشاركة في انتخابات المحلس التشريعي، بل تشكيل "حكومات" متتالية لقطاع غزة الذي لم يعد جزءا من البانتوستان الأكبر، مع الادعاء أنه "الخطوة الأولى" نحو المشروع الاسلامي الأكبر. و لإضافة مسحة اسلاموية تم اطلاق صفة "حكومة ربانية" على الحكومات التي تعاقبت على حكم سجن غزة، بعد الادعاء أنه قد تم تحريره! ووصل الحال بالقطاع الى أسوأ ما مرت به القضية الفلسطينية دون أي رغبة من التيارات السائدة المدافعة عن "المشروع الوطني الفلسطيني" الذي يجسد "مصالح سكان الضفة الغربية، و أحياناَ قطاع غزة، مع استثناء فلسطينيي ال48 و الشتات، أن تطرح مشروعا يتحدى جذريا المشروع الصهيوني المتمدد.

و من الملفت للنظر بروز مصطلح "شطري الوطن" للتعبير عن هذه الحالة الفريدة من حالات التحرر الوطني. فبعد تصغير الوطن الى 22% من أرض فلسطين ليتوافق ذلك مع ما يطرحه "اليسار" الصهيوني من إيمانٍ بالفصل بين السكان الأصليين في بقعة محدودة من الأرض و"نحن" الذين نمثل الحضارة الغربية الحداثية و قيمها "الديمقراطية" ! و بدلا من الحديث عن عدم الاعتراف بقرار التقسيم و مدى شرعيته من عدمها، أو حتى امكانية تطبيقه بدلا من أوسلو (مع عدم الاعتراف به) تحولنا الى الهوس بالانقسام بين "شطري الوطن!"
و أصبح المتحدثون باسم الفصائل من يمينها العلماني و الديني الى يسارها الستاليني يرددون بطريقة ببغاوية ذلك المصطلح البغيض الذي يمثل أسوأ ما جاءت به اتفاقيات أوسلو التطبيعية و دوغماتية التيار الإسلاموي الإقصائي و اليسار الستاليني!