نشر بتاريخ: 10/08/2015 ( آخر تحديث: 10/08/2015 الساعة: 11:50 )
الكاتب: عوني المشني
بات مفهوما بان حركة التاريخ ليست عشوائية ، وان بدت كذلك احيانا فانها سرعان ما تعود لانتظامها ، وفي سياق هذه الحركة فان هناك ممرات اجبارية مفروضة لا مناص منها ، مقاومتها نوعا من ضرب الرأس بالحائط ، حتى وان كانت هناك خيارات في صيرورة التاريخ فانها خيارات ضيقة الى حد ما ، تساهم في تحسين الفرص ولا تغير من المسار ، تؤخر قليلا او تقدم قليلا ولكنها تسير في النهاية باتجاه حركة التاريخ ، النماذج على ذلك اكثر من ان تحصى ، نظرية ابن خلدون في صعود وهبوط الامبراطوريات هي استنتاج منطقي لحتميات التاريخ ، دور القادة ومهما تعاظم كان هو التحرك في مجال الخيارات الضيقة لتقصير فترة الصعود الى الذروة وتطويل فترة البقاء عليها وتقليل خسائر النزول ، بعض الامبراطوريات نجحت بحكمة قيادتها ، بعضها فشل فشلا ذريعا ، بعضها حقق بعضا من النجاح هنا اوبعضا من الفشل هناك ، الامبراطورية الفارسية صعدت بثقة واستمرت طويلا على الذروة وسقطت دفعة واحدة ، تركيا كذلك ، اما اعظم الامبراطوريات التي صعدت وبقيت على الذروة ونزلت عنها نزولا امنا وطبيعيا بحكمة قيادتها فهي بريطانيا حيث وبعد ان نزلت بقيت في قائمة الدول المؤثرة وتركت ثقافتها ولغتها لتقود التطور الانساني ، فاللغة الانجليزية هي لغة البرمجة والعلم والفيزيا والطب والكمبيوتر ، ويكفيها فخرا بذلك ، لا بل قد ورثتها قسرا للامبراطورية الصاعدة وهي امريكيا ، فامريكيا تطورت بلغة مستعمرها بريطانيا ، وان تنازلت بريطانيا عن عرشها عسكريا فقد بقيت على قمة عرشها ثقافيا .
العرب امبراطورية صعدت بسرعة كبيرة ، وصلت للذروة في العصر العباسي واصبحت قاطرة العالم في مسيرة التطور ، بفعل جهل قادتها وسخفهم لم تحافظ طويلا في البقاء على الذروة ، ونزلت عنها بسقوط حاد غير امن فتشظت امبراطوريتها وتناهشتها الامبراطوريات الصاعدة ولا زالت . دون البحث في الاسباب والمبررات فان هذا السقوط كان حتميا ولكن شكله وسرعته كانت هي الكارثة ، لم يكن بالامكان تلافيه وكان بالامكان تقليل خسائره ، وتلك هي الخيارات الضيقة ، كل هذا مقدمة ، مقدمة مكثفة تختزل الصيرورة التاريخية في فكر سياسي اجتماعي ، لم يكن لي شرف اكتشافه وان كنت اجتهد باستخدامه في سياقه الصحيح ، هو فكر خلدوني الاصل ماركسي التطوير موضوعي النتائج ، وهو ثمرة الفكر الانساني على مدى الاف السنين .
اسرائيل ليست امبراطورية صاعدة وان كان لبعض قادتها بعض الاوهام بذلك ، هي دولة تم صناعتها في مرحلة تاريخية جاءت ما بين صعود وهبوط امبراطوريات عظمى ، ما بين صعود امريكيا وهبوط بريطانيا الامن وهبوط تركيا الغير منظم وسقوط المانيا قبل ان تصل القمة تم انشاء اسرائيل ، بن غوريون قائد استطاع ان يقرأ الظرف الموضوعي بدقة وذكاء شديدين ، استثمر في الاتجاه الصاعد وبذكاء شديد ، واستطاع ان يأخذ حصة من الجسم العربي التركي المتهاوي ، الامر لم يكن معجزة ، المرحلة المرتبكة بين صعود وهبوط الامبراطوريات خدمته ، عظمة بن غوريون انه ادار الصراع بذكاء ، استغل الهوامش الضيقة ، لعب على غياب العقل العربي المبدع انذاك ، حقق نجاحا كبيرا . في القراءة التاريخية الاستراتيجية استطاع بن غوريون ان يأخذ الفتات من تقسيم الكعكة العثمانية ، واستغل بقوة المحرقة ليستجدي كي ينال هذا الفتات .
وعندما يقول شخصية امريكية استراتيجية هامه ان اسرائيل ارخص لنا من حاملة طائرات فهذا صحيح وهذه هو وضع اسرائيل في الاستراتيجية للامبراطوريات الكبيرة مثل امريكيا ، قاعدة امريكية ارخص تكلفة من حاملة طائرات . اسرائيل وصلت الى الذروة عام ١٩٦٧ ، تربعت عليها ، تضاعف مئات المرات عدد المهاجرين اليهود اليها ، الصهيونية المسيحية في امريكيا اصبحت بضع عشرات من الملايين ، امتلكت اسرائيل من الاسلحة ما جعلها القوة العسكرية الاولى في الشرق الاوسط ، نالت تعاطف وتاييد كل اوروبا الغربية وامريكيا ، اصبحت اهم قاعدة للغرب الاستعماري في المنطقة ............. وماذا بعد ؟؟؟؟ بعد ، فشلت اسرائيل بعدها في تحقيق اي نصر واضح وغير مشكوك فيه ابتداء من معركة الكرامه عام ١٩٦٨ وحتى حرب غزة الاخيرة ، ربما لم تهزم هزيمة واضحة ولكنها لم تنتصر انتصار واضح ، وبالاستراتيجية فان دولة بامكانيات اسرائيل تعجز عن تحقيق نصر واضح في حروب محدودة يعبر عن ازمة استراتيجية ، تآكلت قوة الردع النفسي الاسرائيلية ، سقطت عقيدة الحرب السريعة والنصر الغير مشكوك فيه ، سقطت عقيدة الحرب في اراضي العدو وابعاد الحرب عن الجبهة الداخلية ، هذا عسكريا اما سياسيا فالوضع اكثر صعوبة بكثير :
لم تعد اسرائيل في صلب المصلحة الامريكية العليا والاتفاق الايراني مع دول خمسة زائد واحد تعبير صارخ عن افتراق المصلحتين الامريكية الاسرائيلية ، اسرائيل لم تعد تحظى بتأييد اوروبا الغربية كما في السابق وربما بدأت تخسر رويدا رويدا المستوى الرسمي بعد ان خسرت بشكل كبير وحاسم المستوى الشعبي ، تحولت اسرائيليا في الغرب الديمقراطي من واحة الديمقراطية في الشرق الاوسط الى نظام عنصري يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية ، الفلسطينيين استعادو كينونتهم السياسية بفعل صمودهم في وطنهم ، متغيرات الشرق الاوسط تعصف وبشكل دراماتيكي بالاستقرار الوجودي الاسرائيلي ، تآكل دور اسرائيل كدولة ذات مهمة للغرب الاستعماري وفقدت قدرتها على تنفيذ اي مهمة لتصبح دولة عبئ على الغرب . قصر النظر لدى الطبقة السياسية الاسرائيلية جعلها - تلك الطبقة السياسية - اسيرة لجمهور المستوطنين الذين يمثلون الغباء المطلق والتطرف الجرامي . تلك هي اسرائيل اليوم ، يضاف لذلك مارد الصراع الديمغرافي بين الفلسطينيين والاسرائيليين ، هذا المارد الذي خرج من القمقم وبدأ في تحطيم الفكر الصهيوني النمطي .
اسرائيل بدأت النزول عن الذروة ، نزول بطيئ ، نزول حتى اللحظة غير مرئي بوضوح ، نزول ليس امنا الى الحد الذي يضمن نهاية مستقرة ، ففي ظل غياب الرؤية الاستراتيجية للطبقة الحاكمة في اسرائيل وانجرار دولة خلف الفكر الاستيطاني قصير النفس والغبي فان نزول اسرائيل غير امن ، ربما الحالة العربية والفلسطينية من الضعف بدرجة تبطئ هذا النزول ، لكن هذا لن يوقف النزول اطلاقا ، مرحلة بدأت وستتواصل والسنوات القادمة ستحمل ما يسرع هذا النزول ، ان قيادة اسرائيلية تعتقد انها تستطيع ان تختلف مع امريكيا في تحديد الاولويات والمصالح الحيوية في الشرق الاوسط هي قيادة اقل ما يقال فيها بانها قيادة تتصف بغباء استراتيجي ، ان قيادة اسرائيلية تريد من حركة الواقع ان تقف مكانها وتتبنى استراتيجية الحفاظ على الوضع الراهن اقل ما يقال فيها انها قيادة تجهل قوانين حركة التاريخ ، فالوضع الراهن كان وسيبقى دوما نقطة التوثب بين ماضي ومستقبل وثباته امرا مستحيلا لانه يتناقض مع فيزياء قوانين الحركة التاريخية ، ثبات الامر الواقع يعني تناقض فرص حل الدولتين ، يعني تغير في ميزان الديمغرافيا ، يعني تآكل العقيدة العسكرية الاسرائيلية ، يعني تفاقم الغضب الفلسطيني ، يعني زيادة اليأس من امكانية السلام ، يعني متغيرات اقليمية استراتيجية ، يعني انفصام تدريجي في الرؤى الاستراتيجية الغربية الاسرائيلية ، يعني زيادة العنصرية والكراهية في المجتمع الاسرائيلي ، يعني زيادة عزل اسرائيل دوليا ، وكل هذا يعني تغير الوضع الراهن ، فاي وضع راهن تسعى حكومة اسرائيل للحفاظ عليه !!!!!!
ان الحفاظ على الوضع الراهن هو النزول الاسرائيلي عن الذروة دون ضجيج ، دون خسائر كبيرة ، دون محاولة لوقف هذا النزول ، الحفاظ على الوضع الراهن هو المعركة الصامتة المضمونة النتائج للفلسطينيين ، الحفاظ على الوضع الراهن هو السلاح الاستراتيجي لعلاج حالة الضعف الفلسطينية ليس بتقوية الحالة الفلسطينية بل باضعاف الحالة الاسرائيلية . في لحظات تاريخية مفصلية فان القدرات الفردية للقادمة تستطيع ان تعيد توجيه دفة سفينة التاريخ ، هكذا لعبت القيادة الصينية بعد ماوتسي تونغ دورا مما مكن الصين من الاستحواذ الاقتصادي العالمي ، اسرائيل تفتقر لقيادات ذات وزن تستطيع ان تفرض منطقها ، يقال انه عندما تغيب الشخصيات فان المؤسسات تفعل دور القادة ، واسرائيل كان الجيش له دور مهيمن وقائد ويستطيع ان يحل مكان الشخصيات التاريخية ، هكذا لعب دورا في تقرير حرب حزيران ، الان هل يستطيع الجيش هذا ؟!!! ربما لا فقوة تاثير الجيش نضالت بتضاءل عقيدته القتالية ، ولم يعد شعار دعو الجيش ينتصر له بريقه الاخاذ ، ربما بحروب لبنان وغزه كان الشعار الاكثر اهمية " اخرجو الجيش من مستنقع لبنان ، او مستنقع غزة " اذن من هي القوة المهميمنة الان ؟!!!
اشد الكوابيس رعبا تحققت ، قوة الاستيطان اصبحت قوة محركة ومسيطرة ، في السياسة ، وفي الجيش ، وفي تحديد افق المستقبل ، الاستيطان كاداة فعل وايدلوجيا ومراكز تاثير اختطف دولة ، اسرائيل كانت جيش له دولة ، صارت استيطان له دولة !!!! دولة بحجم فيل يقودها عقل بحجم عقل دجاجة ، الصهيونية صنعت الاستيطان لتسوق اهدافها فسيطر الاستيطان على الصهيونية وتحكم بمسارها لخدمة اهدافة . الفلسطينيين تحكمهم ازمة اللحظة ، هي ازمة مؤلمة لا شك ، حادة لا شك ، وتراهم يستعجلون احيانا الخلاص ، وربما سوء الاداء القيادي الذي يجعل من البعض مستعجلا تقديم منجزات في عهده وعلى يديه ، ومن منطلق ازمة اللحظة تراهم يشعرون بالفشل وانسداد الافق والاحباط ، هذا هو بالضبط الوساس المرضي الذي يعيشه الفلسطينيين ، ولكن حقيقة الوضع مختلف ، الفلسطينيين عادو للخارطة ككينونة سياسية وتجاوزوا التذويب والانهاء ، الفلسطينيين على اوضهم يدقون اسفينا كبيرا في عرش فكرة الدولة اليهودية النقية ، الفلسطينيين عبر الديمغرافيا يرسمون ميزان جديدا للقوى تسقط فيه هيمنة الديابات والطائرات ، الفلسطينيين بتجسيدهم دور الضحية يدفعون باسرائيل الى زاوية الدولة العنصرية الجرباء ، والوقت الان اصبح سلاحا من ذهب بيدهم . سيدرك الفلسطينيين ذلك لا محالة ، سيمدد الفلسطينيين ارجلهم وينتظرو وعلى اقل من مهلهم ، والمتضرر عليه ان يبحث عن حل ، تمتلئ الضفة مستوطنات ، ولكن تل ابيب تمتلئ فلسطينيين ، نابلس ليس اهم من تل ابيب ، واحدة باثنتين ، يزيد الاسرائيليين في الضفة ، لكنهم يقلون في الجليل ويزيد الفلسطينيين فيه .
سيقول البعض انني حالم !!! نعم ولم لا !! الم يكن حلما قبل ثلاثون سنه ان تكون الكتلة الثالثة في الكنيست فلسطينية ؟!!!!! بعد ثلاثون سنة اخرى هل ستكون الكتلة العربية هي الثانية وتزيد عن الثلث قليلا من عدد اعضاء الكنيست ، واذا ما اضيف اليها عشرون عضو من اليهود الشرقيين سيشكلون الحكومة !!!!! ربما هو حلم ايضا ولكنه حلم له ما يبرره ، ولا يحتاج الى الكثير من الجهد سوى بعض من الشراب المثلج وابتسامة الواثق من نفسه ما الذي يراد الوصول اليه ؟!!!! لا شيئ اكثر من تخيل الصورة المستقبلية ، ايان لوتسكي يقول انكم على طريق الدولة الواحدة ولكنها طريق فيها دمار كبير وتطهير عرقي ودماء كثيرة ، ريفلين يدعو الاسرائيليين بان يعترفوا بان وجه المجتمع الاسرائيلي تغير وان نصف المجتمع غير صهيوني ، هؤلاء يحاولون التخيل ، وانا كذلك ، طريق الدولة الواحدة تمر عبر تطهير عرقي ودم ولكنها هي الطريق الوحيد المتاح ، هكذا تخيل لو تسكي ، ساكمل الحلم ، هي طريق بسياسية اليمن في ازالة الفواصل بين الضفة واسرائيل يتقصر قليلا ، وبالتطهير العرقي والدم ستضطر حتى كندا الى التخلي عن تأييد اسرائيل ، وسيستقيل عضو من الكونغرس الامريكي نتاج فضيحة اكتشاف انه اجتمع بوزير اسرائيل في بلد افريقي سرا ، كون هذا الوزير متهم بالتطهير العرقي .
ريفلين سيقف على محاضرا بعد ثلاثين عاما ليقول يفترض ان نضع رؤيا للحفاظ على حقوق الاقلية اليهودية ، ساكمل الحلم واقول ان الفلسطينيين سيتعهدو رسميا في حال تشكيلهم الحكومة الاسرائيلية بانهم لن يمسو حقوق الاقليات بان اللغة العبرية ستبقى لغة رسمية بغض النظر عن عدد المتحدثين بها وبان قانون التقادم سيتم اقراره على افعال الجنود ولكن ليس خمسة عشر عاما وانما خمس وعشرون عاما . اهو حلم ؟!!! لا ليس كذلك ، انه صيرورة الواقع ، انه سياسة الحفاظ على الوضع الراهن ، انه رحلة النزول التدريجية ، لا تسقط الامبراطوريات بالضرورة عبر الحروب ، ربما تسقط لفقدان مبرر بقاءها ، وربما لان قيادتها لم تصنها . السؤال : هل سيصمد الفلسطينيين ثلاثون سنة اخرى لتحقيق هذه الاحلام ؟؟؟؟ صديق لي يقول لي : سابني فوق بيتي ثلاث شقق اضافية ، سالته باستغراب لماذا ؟؟؟ ليس لديك الا ولد واحد فلمن باقي الشقق ، قال لابناءه ، بعد سنوات سيتزوج وسياتيه باذن الله ولدين على الاقل لماذا لا اجهز لهم شققهم ليتزوجوا فيها ؟!!!!!! باعتقادي وصلكم الجواب ، وان لم يصل فما عليكم سوى تبنى سياسة الحفاظ على الوضع الراهن !!!!