نشر بتاريخ: 11/08/2015 ( آخر تحديث: 11/08/2015 الساعة: 13:31 )
الكاتب: الشاعر عمر فارس ابو شاويش
وقفت أمه على باب المنزل، تلّوح بيديها في وداع أخير ترسم كل تخيلات الحالمين والذاهبين إلى العرس، لم تغمض عينيها في تلك اللحظة التي سجد الدعاء فوق نعش الشهداء حينما كانت الملائكة تستعد لاحتساء دموعها الثمينة، كدموع الأرض فرحاً حين تستقبل أحبائها الصغار والكبار .
كان ليث الخالدي، أجمل قصة سمعتها في وداعه، حين استيقظ من سريره متوشحاً بالعلم الفلسطيني، بينما يلفّ قلبه حزن لا يعرف النوم بعدما أضحت النار فسحة أخيرة تأخذ الرضيع علي إلى آخر الطريق، حيث النار، تلك النار التي أحرقت قلوبنا، ورسمت على جدران المنزل دخان مبعثر، وصوت الشهداء يقترب كالملائكة القادمين وهم يهتفون " ما بين ليث وعلي المسافات تقترب لتعانق الأرواح، تكتب وداعاً أليماً، أو ربما، جميلاً " .
لم نكن نقوَ على استيعاب تلك اللحظات التي انغمس فيها الرحيل بأسماء القبور، وأخذ كلّ قبر اسماً ولوناً وشكلاً جديداً، بل، لم نكن نعلم أن ليث يعرف الطريق الممتد بين قلوبنا حيث الوجع، إلى ذاك الحاجز اللعين المحاصر بالبعد، بأغنيات ثائرة، بموسيقى صامتة رسمت ألحانها في الشارع الوحيد الذي وقف فيه ليث، رفع يده اليمنى، أمسك بالعلم الفلسطيني، أقام خيمة صامدة صنعها من جسد علي الطري، أشعل من حليب الرضيع قصيدة لا ضحك فيها سوى الغضب، اقترب من الجندي، ضحك أكثر، اقترب أكثر، أطلقوا الرصاص عليه أكثر، نام ممتداً إلى جوار علي أكثر فأكثر، احتسيا حليب الملائكة أكثر، ونحن في وداعهما، نضحك أكثر، ونبكي أكثر .
تقول أمّك وهي تعانق سريرك الوردي " عندما جلست على شغاف القلبِ ذات حزن بحتُ لك بأنني لا أريد أن أكون محطةً تترجل منها عند وصولك إلى أخرى حيث الرحيل الأخير, أريد أن أظلَّ ذلك العشق القصي في الروح, أخبرتك يا ليث بأنك لا تشبه الأسماء ولا تحمل الملامح ذاتها التي يمتلكها الكل, لذلك كان عليّ أن أحتفظ بمشاعرك, كان عليّ أن أحملك على جناحي حلم حتى لا تطأ الأرض فتدفن فيها ذلك الشعور الدافئ, فلا تتكئ على حجر صغير بيدكَ من شأنه أن يجعلكَ تشبه اللقاء الذي لا لقاء بعده, ليس بالضرورة لمن يلامس الجسد أن يقتربَ من الروح, وأظنه حتمياً عليك أن تظل تلك الأسطورة التي تورق في أوردتي, وتزهر على ضفاف وجعي, ستظل زهرة ياسمين رقيقة تنعتق في روحي, لنتحرر معا من الفناء, من أجسادٍ لا ترتقي لأثير أرواح تعانق خيوط الشمس الدافئة, ولا تسمو لتكون شفيفة كروحك ولا متلألئة كذلك الدفق الهائل الذي يخترقني كلما مررت في بالي .
قطرة دافئة يا ليث من دمعها تسقط على خدّي، على قلمي، حيث أشاهد التفاصيل من لحظة ترقب هناك في غزة ، توقظني من غيبوبة لا أعرف كم دامت، أشعر بإعياء شديد كما لو أن الطلقة اخترقت جسدي أنا، أحاول أن أفتح عيني، فلا تتجاوبان مع رغبتي في الرؤية، لكنني بعد إصرار استطيع أن أفتحهما، يستقبلني وجه أمك/أمي، أرى دموعها الدافئة تنفلت من عينيها بغزارة كطبق الحلوى يزغرد ملائكياً في وداع الشهداء، وأشعر بالقلق الذي يختبئ خلف نظرات منكسرة تحاول الهرب من مواجهة عيناها، وأنتبه إلى أننا لسنا في المنزل أنا وأنت، هذا البياض الذي يلفني أكبر من قدرتي على فهمه، على استعادتك لها، وتلك الأمنيات الموصولة إلى قلبها يا ليث، تتساءل، أين أنت/أنا ؟! ..
رائحة اللوحة التي رسمتها قبل رحيلك تقتحم منزلك مفسرة تفاصيل هذا المكان الذي يحتضن حباً أحس بلمعانه في أفق الغرفة، جسد أمّك المتهالك فوق سريركَ الغائب ، الألم الذي يثقب أطراف جسد والدك بأنامله المدببة، ورأسه الذي يشعر بأنه صار مجوفاً تضربه مطرقة في نفس المكان وبتواتر مزعج، وشيء من الغضب يرتسم على وجهه يحاول مواراته خلف قبلة طبعها على جبينك وهو يخفي دمعة تتنصل من عينه، يهمس لذاته، يا ليث ما الذي حدث ؟! ..
نلقي نظرة عابرة على جسدك فتتوقف قلوبنا، نعيد النظر ثانية لعلّ خطأ ما يعلن ظهورك من جديد في قصائدي، لكنكّ لم تظهر، وداعكَ موجع جدا في قلوب من عرفوك وأحبوك، لم يضعوا في حساباتهم أن يشتروا ثوباً جديداً للفرح بحجم وداعك، هم الذين اعتادوا على الحزن بمرور عابر، يحاولوا ثانية أن يخبئوا الدموع أمامك، إلا أن ابتسامتك تهمس لهم، تخبرهم بأنك تستحق عرس كهذا ، وأن عليّ، الرضيع الذي ضمّت النيران جسده وأخذته إلى منزل جديد بعد الحرق، كان يعلم أن السرير الذي تركته يا ليث، تعود إليه نائماً ممتداً ضاحكاً، كي تنطلق منه إلى حياةٍ جديدة، وفرح جديد .
ترى يا ليث، كم من الفخرّ تبلغ حينماً مضيت بين المسافات والمساحات تبحث عما يغضبك إذا غضبت، أو يفرحك إذا فرحت، أو ربما، يجعلك قلب أمٍ نثرت أحاسيسها بين الطرقات تبحث عن رضيعك علّي، فتجده حيث لا صمت يسكت ثورتك، أو ربما يكون العناق الموصول ما بين جسديكما ولغة حبّ، وعشق الأرض .