نشر بتاريخ: 11/08/2015 ( آخر تحديث: 11/08/2015 الساعة: 11:35 )
الكاتب: نبيل دويكات
يعيش مجتمعنا الفلسطيني هذه الأيام أزمة حقيقية في كل جوانب ونواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية.. الخ من الجوانب. وبات من الصعب جداً علينا أن نصل الى نتيجة تبعث على الراحة والإطمئنان في حواراتنا ومناقشاتنا في كل المحافل والمستويات. وكل ما نحصل عليه هو تردي الأوضاع من سيء الى أسوأ. لكن الأسوأ من كل ذلك هو أن نفقد الأمل، الذي بات يتلاشي في كل يوم أكثر وأكثر، ولا يتمكن غالبية المواطنين من رؤية سوى السواد القاتم القادم. في كل ظاهرة وحدث هام في حياة مجتمعنا هذه الأيام نصل تقريباً الى نفس النتيجة ونصطدم جميعاً بالحائط وننكفىء على وجوهنا بإنتظار القادم الأسوأ وصدى صوتنا يردد نفس السؤال: الى أين نحن ذاهبون؟!
رغم أهمية الجانب السياسي وتأثيره في حياتنا، وأقصد في مستوى الصراع والنضال ضد الإحتلال، ورغم التأثير السلبي للإحتلال والذي يطال كل تفاصيل حياتنا، إلا أنني سوف أركز على القضايا المجتمعية التي نمتلك فيها على الأقل هامشاً واسعاً للتغيير والتأثير. سأذكر هنا بعض الجوانب على سبيل المثال لا الحصر: تراجع حالة الأمن والإستقرار الداخلي، تزايد الفساد وسوء الإدارة على كافة المستويات وفي كل الهيئات، إرتفاع نسب البطالة والفقر، تراجع نوعية الخدمات وخاصة الأساسية كالتعليم والصحة والرعاية الإجتماعية عامة وللفئات الضعيفة خاصة، إنتشار وتفشي السلع والمواد الفاسدة في كل المجالات، إرتفاع نسب الجريمة وإنتشار المخدرات.. وغيرها من الظواهر السلبية التي تعصف بإستقرار وتماسك مجتمعنا بصورة واضحة وخطيرة. وبالطبع فإن في كل عنوان من التي ذكرتها هناك الكثير من التفاصيل التي تنتهي كلها بأسئلة لا تجد إجابات، ولذلك فإن حلقة نقطة الإرتكاز في البحث عن حلول ومعالجات تبقى مفقودة والمخرج الرئيسي الواضح هو تردي الوضع وتفاقم مشكلاته وتعقيداته.
لن أتساءل هنا عن دور الحكومة وأجهزتها ومؤسساتها المختلفة لعدة أسباب لعل أهمها أن تجربة عدة سنوات أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك بأن هذا الدور غير كافي، ولم يكن قادراً ليس فقط على المعالجة، وإنما غير قادر أيضاً على كبح الإنحدار والتراجع المستمر في كل المجالات. فمثلاً كل الاجراءات والسياسات الرسمية لم تتمكن من معالجة ظاهرة كإنتشار المخدرات، أو أتساع ظاهرة الشجارات، أو تحسين مستوى ونوعية الخدمات الأساسية للمواطنين عامة والفئات الضعيفة خاصة، أو إيجاد حلول ناجعة لإنتشار البطالة والفقر، أو محاصرة الفساد في أي مجال من المجالات، هذا إن لم نقل أنها سياسة تنحاز بصورة تتكشف أكثر وأكثر لصالح فئات اجتماعية محددة ككبار التجار والمستثمرين وأصحاب رؤوس الاموال، وهناك أمثلة كثيرة نعايشها يومياً. ولكل ذلك فإنه من الواضح أن مستويات البحث والتحليل يجب أن تكون أوسع وأعمق لكي نحقق ضمانات نجاح أكبر. ومن هنا جاء التساؤل عن دور الأحزاب السياسية والنقابات.
نظرياً فإن شرعية وجود الأحزاب والنقابات مستمدة من شرعية تمثيلها لفئات وشرائح إجتماعية معينة، وتعبيرها عن مصالحها، وقدرتها على تعبئة وحشد جماهيرها لمعالجة قضاياها وهمومها، بإعتبارها جزء من مكونات النظام السياسي لأي مجتمع. وللأحزاب رؤيا سياسية في التغيير السياسي والإجتماعي، وفي سعيها من اجل الوصول الى السلطة ومراكز صنع القرار للتأثير على سياساتها، بحيث تميل اكثر لصالح الفئات والشرائح التي تعبر هذه الأحزاب عنها. في واقعنا الحالي فإن هناك شكوك عديدة وتساؤلات حول حقيقة هذا الدور، أو المسئولية. والهدف هنا ليس التشكيك بشرعية الأحزاب والنقابات بقدر ما هو دعوة للبحث والتحليل. لا نرى في الواقع سوى دور خجول ومتواضع لمعظم الأحزاب والنقابات في أحداث وقضايا جوهرية في حياة غالبية فئات المجتمع.حيث لا نرى لها دوراً جماهيرياً واضحاً في متابعة قضايا إرتفاع أسعار السلع الإستهلاكية مثلاً، أو في مواجهة إنتشار السلع الفاسدة، أو تفشي ظواهر العنف والجريمة والمخدرات، أو تفاقم العنف والشجارات.ولا نرى دوراً مؤثراً للنقابات في الحد من البطالة، أو النضال من أجل توفير حماية إجتماعية للعاطلين عن العمل. وحتى أننا نلاحظ عجز الأحزاب والنقابات مجتمعة عن تنظيم تحرك ذو مغزى لحماية ظهر المواطن من ارتفاع الأسعار ، وتغوَل الإحتكارات، وخصخصة كثير من القطاعات الحيوية لحياة المواطنين كالمياه أو الكهرباء مثلا.وحتى في الجانب السياسي وهو مواجهة الإحتلال والتصدي لساساته في مختلف المحاور، فان هذا التراجع واضح وملموس على أرض الواقع أيضاً.
السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: على من تقع المسئولية في هذا "التراجع" أو التقهقر؟ على المواطن؟ أم النقابات والمؤسسات والأحزاب؟ إحدى الإجابات التقليدية التي لن يؤدي الى نتيجة، وستبقى تدور في نفس الحلقة المفرغة هي تحميل المواطن المسئولية عن ذلك، وإتهامه بالإبتعاد عن مناصرة ومؤازرة الأحزاب والنقابات، والمواطن بدوره يحمل الأحزاب المسئولية لأنها لم تلامس همومه وحاجاته ولم تعبر عنها في برامج وخطط عمل. وهكذا يستمر الجدل في صورة أشبه بالسؤال التقليدي: أيهما أسبق الدجاجة أم البيضة؟! لكن خلال الجدل والنقاش لم يعد أحد يتحدث عن بعض المفاهيم التي تعتبر من مسلمات وبديهيات العمل الحزبي والنقابي كمفاهيم: الطليعة، القيادة.. وغيرها من المفاهيم التي تعطي معنى عملي وفعلي لحقيقة وطبيعة العلاقة بين أي حزب أو نقابة أو مؤسسة والشرائح والفئات الإجتماعية المختلفة. وعوضاً عن كل ذلك إنتشرت مصطلحات ومفاهيم أخرى بديلة، قولاً أو ممارسة، وحل مفهوم"البراغماتية" محل "الراديكالية" مثلاً. والبراغماتية بالمفهوم البسيط تعني القدرة او "فن" التعايش مع الواقع القائم، دون حتى إثارة ولو نقاشحول إمكانية ومسار تغييره. هل أصبح ذلك هو المبدأ الرئيسي للأحزاب والنقابات، فضلا عن المواطنين؟ وبات الهم الأساسي هو الحفاظ على الذات والوجود في واقع ينحدر بصورة متواصلة؟ أن مجرد عدم مناقشة إمكانية تغيير الواقع فضلاً عن طرق وسبل هذا التغيير سيقود حتما الى الفراغ، وإنعدام الأمل، والى تركيز كل الجهد والطاقات، الفردية والجماعية، للحفاظ على الذات.
حقائق التاريخ تشير الى أن من لا يؤثر في مجرى الأحداث فإنه سيكون بإستمرار عرضة لأن تجرفه الأحداث نفسها، ومن لا يبحث لنفسه عن مكان مؤثر في صنع الأحداث فإنه لن يحصل على ذات المكان كهبة أو منّة من أي أحد. ولكل ذلك فأنه لا بد للأحزاب والنقابات والهيئات التمثيلية ان تطرح السؤال، وتعيد طرحه، وإيجاد الإجابات الملائمة عليه. الإجابات التي تعيد تنظيم أمورها وأوضاعها وبما يؤهلها لتكون لاعباً مؤثراً وفاعلاً. وبغير ذلك فإننا كمجتمع سنواصل الإنتقال من مأزق الى مأزق أكبر وأوسع، وهو لن يؤدي بنا إلا الى فقدان كل جوانب قوة وتماسك مجتمعنا. وحينها سنكرر بعد عدة سنوات نفس العبارة التي يكررها الكثيرون منا اليوم عندما نتحدث عن سنوات سابقة ومظاهر كثيرة من التماسك المجتمعي بالقول "الزمن الجميل". مع الفارق الوحيد أننا نكررها اليوم حين نتحدث عن مظاهرومفاهيم وقيم إيجابية سادت في مجتمعنا في حقبة سنوات الثمانينات من القرن الماضي، لكننا قد نكررها مستقبلا من باب المفاضلة بين السيء والأسوء، أي نطلق بعد عدة سنوات تسمية "الزمن الجميل" على واقعنا الحالي، وهذه هي الطامة الكبرى.