الكاتب: كفاح مناصرة
حين نتحدث مع جهات الاختصاص وتحديداً الجهات الامنية حول موضوع الجريمة ومستوياتها في المجتمع الفلسطيني يجيبونك بالرد "أننا والحمد لله يخلو مجتمعنا من الجريمة المنظمة وغالبية الجرائم المرتكبة أو السائدة تندرج تحت بند الجريمة غير المنظمة".
تكاد التسمية هنا ان تكون هي الاهم اذ يظهرون في جهات الاختصاص ارتياحهم لانعدام او غياب الجريمة المنظمة معتقدين بانها الاخطر على المجتمع في حين الخطر الاكبر على مجتمعنا وعلى النسيج الاجتماعي هو في تزايد ارتكاب الجرائم وتحديداً جرائم القتل التي تدرج تحت بند الجرائم غير المنظمة، على اعتبار ان الجريمة المنظمة تلك التي تحدث بالاتفاق بين شخصين او أكثر لارتكابها، اما غير المنظمة على خلاف المنظمة ينفذها شخص محدد بشكل فردي.
لقد حظيت الجريمة المنظمة اقليميا وعالميا باهتمام كبير من جانب دول العالم لتحقيق التعاون الدولي للسيطرة عليها والحد منها بواسطة التنسيق والتعاون الاقليمي والدولي. وقد نظمت دول مختلفة في العالم برامج عديدة وطورت بلدان كثيرة إجراءاتها القانونية والعملية للسيطرة اكثر فاكثر استخباراتيا وامنيا بهدف منع انتشار الجريمة المنظمة، وهي جهود جاءت بالتزامن ومكملة لجهود الامم المتحدة المكرسة لهذه الغاية ومن ذلك سن القوانين والتشريعات الداخلية والميل لتعزيز التعاون الدولي لمكافحة الجريمة المنظمة. مع ان الجريمة المنظمة تأخذ كل يوم صورا واشكالاً جديدة كنتاج لتداعيات العولمة وتحول العالم الى قرية صغيرة كنتاج لنظم الاتصالات ومنجزات التكنولوجيا العلمية.
وبهذا الخصوص الامم المتحدة من جانبها كانت قد اصدرت اتفاقية مكافحة الجريمة المنظمة، وهذه الاتفاقية عرضت للتوقيع والتصديق عليها بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة الخامسة والخمسون المؤرخة بتاريخ 15 تشرين الثاني 2000، ومضمونها يتمحور حول تعزيز التعاون الدولي لمنع الجريمة المنظمة ومكافحتها الى جانب ان الاتفاقية تضمنت نصاً بأن على الدول الاطراف التعهد والالتزام في قوانينها الداخلية واجراءاتها الخاصة مكافحة نشاط الجريمة المنظمة الذي يمس امن المجتمعات.
من جانبها جهات الاختصاص الفلسطينية التي عليها واجب رصد الجرائم في المجتمع الفلسطيني وعليها يقع عبء تشخيص اسباب الجريمة واعباء معالجتها آخذين في الاعتبار طبعا الخصوصية السياسية الفلسطينية يقومون بدور هام وكبير بحاجة للتوقف عنده لتقييمه وتطويره وللاستفادة من الخبرات المتراكمة.
لذا اذا كان على جهات الاختصاص ان يشكروا الله على خلو مجتمعنا من الجريمة المنظمة فالأولى ان يشكروا انفسهم على مجابهتهم ارتكاب الجرائم غير منظمة في المجتمع الفلسطيني، لان غياب الجريمة المنظمة بالمستوى الذي يمكن اعتبارها مشكلة اجتماعية غير موجود في حين التحدي الصعب امام جهات الاختصاص الفلسطينية يتمثل في مواجهة الجريمة غير المنظمة والتي هي الاخطر والاكثر فتكاً وتهديداً للنسيج الاجتماعي الفلسطيني والامن الداخلي برمته.
مخاطر الجريمة غير المنظمة:
اولا: الجرائم غير المنظمة وبغض النظر عن اتساعها او محدودية وقوعها هي في كل الاحوال شأن داخلي حتى مع وجود الاحتلال الإسرائيلي الذي يعزز هذا النوع من الجرائم بمحاولاته فكفكة الجبهة الداخلية واضعاف سيطرة المجتمع الفلسطيني عليها. واكثر من ذلك يحاول الاحتلال الاسرائيلي بتغذيته لمسببات الجريمة غير المنظمة ان يحرف بوصلة الناس لتشتيت الجهود الهادفة لدحره عن الارض الفلسطينية وانهاء احتلاله لها ولهذا نراه على الدوام يحاول تشتيت جهود معالجتها ويسعى لتحويلها دائما للجبهة الداخلية للفلسطينيين لزعزعة أي استقرار اجتماعي او اقتصادي او سياسي فينشغل الفلسطينيون في تداعياتها عليهم الامر الذي يريح الاحتلال الاسرائيلي بصرف الاهتمام والتركيز على مقاومته فيحاول تغذيتها دائما بدلا من التعاون مع شعبنا لوقفها ومعالجتها.
ثانياً: السبب الثاني الذي يزيد من مخاطرها يكمن في ثقافة المجتمع العربي الفلسطيني وعاداته وتقاليده القديمة التي تشجع على الجريمة غير المنظمة وحيث الجريمة غير المنظمة امر داخلي وليس اقليمي او دولي فهي لا تتعارض مع المصالح الاقليمية او الدولية لذا يقع عبء معالجتها على المجتمع الفلسطيني نفسه وتحديدا على جهات الاختصاص.
وما يثير الاسف هنا هو ان مكونات الثقافة الفلسطينية لمرتبطة بالعادات والتقاليد القيمة والموروثة تحض على العنف وممارسته بأشكال مختلفة. مثالا فورة الدم، الاخذ بالثأر، القتل على خلفية ما يسمى بشرف العائلة، والشجارات العائلية. ولان هذه الانماط من السلوك العنيف ذات جذور ثقافية وبُعد أيديولوجي يصعب العمل على تغييرها واحيانا تنعدم الجرأة للمبادرة الاجتماعية من اجل الغائها. لذك تعتبر هذه الجرائم هي الاكثر فتكاً بالبناء الاجتماعي الفلسطيني وتهدد منجزات الفلسطينيين نحو بناء مجتمع مدني .
يقر بقانون العقد الاجتماعي الذي يتنازل فيه الافراد عن مصالحهم الذاتية خدمة للمصلحة العامة لما لهذه التهديدات من نتائج وتأثيرات مدمرة مباشرة وغير مباشرة نفسية واجتماعية واقتصادية على المستوى الذاتي والاجتماعي على المدى القريب والبعيد. والأعباء التي تقع على كاهل الضحايا وعائلات مرتكبي الجرائم الذين يخضعون لتلك الثقافة المحرضة على الاخذ بالثأر والقيام برد فعل مباشر مرئي من قبل الناس هو بحسب العادات والتقاليد مطلب اجتماعي ضروري وهام لبقاء وصمود العائلة او العشيرة او اهل الضحية امام المجتمع، لان عدم القيام برد فعل يعتبر معيباً ومخجلاً اكثر من الجريمة نفسها.
فبحسب هذه الثقافة فورة الدم او الانتقام او الثأر او القتل على خلفية الشرف فان عائلات الضحايا مطالبة برد فعل يضمن ويحفظ ماء وجههم أمام المجتمع وحتى لا يكون موضوع الاعتداء عليهم امر سهل ومن أجل وقاية انفسهم من أي احد آخر قد يتجرأ ويعتدي عليهم. وفي داخل العائلة او العشيرة تسود الافكار اليوم انت وغداً انا، لذلك اقف معك اليوم لتقف معي غداً وهذه ثقافة تترعرع وتنمو وسط احساس الانسان انه في غابة لا قانون يحميه. انها الحقيقة وان كانت مؤلمة لكن تحليل سلوك البشر مهم للبحث والوقوف على دوافعه كي نتمكن من مواجهته.
عادة في المجتمع الفلسطيني عند وقوع جريمة يتم التركيز ليس على الجريمة بحد ذاتها وانما على فورة الدم، على اتساعها وعلى شدتها مثالا، وهل هي بحجم الجريمة ام لا، وهل الحالة الانفعالية كافية وتستجيب لاتجاهات العائلة او اتجاهات افرادها او مع حالة الحمولة والبلد بأكملها أم لا.
فاذا لم تقم العائلة بفعل يوازي ويرد على ارتكاب الجريمة التي ارتكبت بحقهم ستصاب العائلة بعار اجتماعي ( الشعور بالعار هنا يعتبر محرض ومحفز لارتكاب مزيد من الجرائم، ووصمة العار ستلاحق العائلة وتزيد المشاعر والاحاسيس بالقصور مما يزيد استهدافها من قبل الأخرين الخصوم اذا لم ترد فتتصرف وفق هذا الوصم للتحرر الانفعالي من وصمة العار وهكذا ينشأ كثير من ابناء العائلات وهم يشعرون بعار عدم الرد على المعتدي عليهم مع ان الجرم ربما يكون قد وقع قبل عشرين او خمسين عاما.
وبحسب الثقافة المجتمعية وتحت ضغط العادات والتقاليد فان عدم القيام برد فعل عائلي يؤدي للانتقاص من مكانة العائلة ومكانة افرادها وسمعتهم التي يجد الافراد مكانتهم من خلالها فلا مكانة للفرد في المجتمع سواء كان ذكر او انثى. ففي الغالب يسأل الناس بعضهم انت من أي حمولة ؟ من دار مين ؟ قبل السؤال عن الاسم او المكانة او المهنة الخاصة بالفرد، يتمحور الاهتمام بمعرفة عائلة الفرد وحجمها وهل هي كبيرة ام صغيرة العدد ويجري الاهتمام بسمعتها وما تركته في المجتمع من انطباعات عن قوتها وتماسكها لان سمعة العائلة احيانا تشكل الحماية لأبنائها الذين هم بأمس الحاجة لها، وخاصة عندما تفتقد المجتمعات للأمن وتغيب سيادة القانون، لهذا تسعى العائلات ويسعى الافراد فيها لبناء منظومات فكرية جماعية لحماية الذات والتي اساساً تتأسس استنادا لثقافة تقوم على التمييز الطبقي او الجنسي او العرقي وفلسطينيا كلما نجح الفلسطينيون في تجاوز هذه الثقافة يسعى الاحتلال بشكل واعي لتكريسها فيما نحن كفلسطينيين عن غير وعي نكريس تلك الثقافة.
ان الجريمة غير المنظمة التي يذهب ضحيتها كثيرين من ابناء الشعب الفلسطيني من شبابه ونسائه نتيجة الشجارات العائلية، او القتل على خلفية ما يسمى بالشرف ، او في اطار جرائم الثأر وفورة الدم ، للأسف لم يرافقها اية جهود حقيقية قوية بمستوى المخاطر والخسائر التي تطال المجتمع الفلسطيني .
أية جهة ذات علاقة بالأمن أو تعليمة، او اية جهة قانونية فلسطينياً، وصناع القرار وفي اطار تكريس مفهوم العدالة الجنائية مطالبون بوقفة صادقة مع الذات وعليهم الجهوزية لمجابهة الثقافة التي تشكل الاساس لهذا النوع من الجريمة تحت بند الجريمة غير المنظمة.
ان الجهود الاخرى خارج القانون وخارج جهاز العدالة كالصلح العشائري وغيره تظل جهودا شكلية لا تواجه المشكلة الحقيقية بإعادة النظر في البنية الثقافية التي تغذي العنف ونبذه ولا يعتمد عليها في استبدال قيم فورة الدم والثأر وغيرهما بقيم تقوم على اساس الاقرار بمبدأ العقد الاجتماعي او بمبدأ سيادة القانون الذي أسست عليه المجتمعات الاخرى كأساس لتقدمها.
ان الاستمرار في دوامة الثأر وتقبل مسالك فورة الدم التي تهدر طاقات وموارد المجتمع وتشغل الجمهور في اعمال الاصلاح والمفاوضات بين العائلات امر يجب ايقافه لصالح تكريس طاقات المجتمع وتوجيهها لبناء الانسان الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال والذي لم يتمكن بعد من التأسيس لدولته المستقبلية دولة المواطنة .
لا يجوز الاكتفاء بقول "الحمد لله" لان مجتمعنا لم يواجه حتى الان الجريمة المنظمة بل اذا كان على جهات الاختصاص الفلسطينية ان تتباهى بشيء فهو في تجاوزها والمجتمع مخاطر الجريمة غير المنظمة ويوم تصبح هذه الجرائم شيئا من الماضي.
ان الجريمة غير المنظمة في شكلها الظاهر ووفق التعريفات العلمية الخاصة هي جرائم فردية لكنها في الحقيقة وبحسب واقع الحال في المجتمع الفلسطيني ذات طابع جماعي ومنظم لأن المجتمع الفلسطيني كله يشترك فيها سواء بصمته عليها او بمباركته لها وتغذيتها لذلك تعتبر هي الاخطر على المجتمع الفلسطيني وهي ميدان التحدي بالنسبة لجهات الاختصاص الفلسطينية.
*طالبة دكتوراه في علم الجريمة